من بدايات تدوين الشعر الحساني / سيدي أحمد ولد الأمير: باحث موريتاني مقيم في قطر

سبت, 07/11/2015 - 16:28

عثرت على سبع عشرة صفحة من الشعر الحساني القديم نسخت في يونيو 1843 (6 جمادى الأخيرة 1259 للهجرة)، ويبدو أنها من وثائق الخلاسي السنغالي دافيد بوالا الشهير باهتمامه بثقافة هذه البلاد وتراثها الشعبي. 

جمع بوالا، وهو في السنغال الكثير من تراثنا، جمعه عن طريق رواة وأدباء كانوا يفدون إلى السنغال فيجلس معهم هذا الخلاسي ويدوِّن من عندهم طرائف وأدبا وشعرا وتاريخا وتراثا حسَّانيا. إن الخلاسي بولا هو الذي حفظ لنا كتاب "امروڨ الحرف"، العجيب في مادته والنادر في موضوعه، وهو أقدم تأليف مكتوب باللهجة الحسانية وقد سبق أن تحدثت عنه في مقال لي مطول ومنشور. وربما تكون هذه المدونة الشعرية العامية التي بين أيدينا من أقدم تدوينات الشعر الحساني القديم وهي مختارات تم جمعها ونسخها في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي. وهذه المدونة تزيد على ثلاثين نصا ما بين "طلعة" و"ڨافٍ".

يوجد الأصل المخطوط لهذه المدونة في المكتبة الوطنية في باريس تحت رقم Sg M sim 8°49 1323، وقد كتب على صفحته الأولى باللغة الفرنسية ما نصه: تقييدات بلغة بيضان السنغال، جمعها السيد بوالا في 4 يوليو 1843 وأهداها للسيد بارون دو روجيه، لصالح الشركة الجغرافية، النص في دفترين.

وفي نفس الملف مع هذه المدونة التي لا تزيد على 17 صفحة جزء هام من كتاب الاكتفاء للكلاعي يقع في 71 صفحة ويتعلق بترجمة مؤلفه الكلاعي للنبي صلى الله عليه وسلم. فلعل المقصود من عبارة "النص في دفترين" أن جزأه الأول أو الدفتر الأول خاص بالشعر الحساني والثاني خاص بجزء كتاب الاكتفاء المتعلق بترجمته صلى الله عليه وسلم.

يعود تاريخ نسخ هذا النص ليوليو 1843 كما ذكر بارون روجي في جرده لمؤلفات دافيد بوالا، وقد ولد بوالا في مدينة سينلوي "انْدَرْ" بالسنغال سنة 1814 لأب فرنسي وأم سنغالية.

اهتم هذا الخلاسي ببلادنا اهتماما خاصا وهو شاب يافع فكان يبحث عن أخبار الموريتانيين وعن عاداتهم وعن لغتهم وعن دينهم، وقد جمع نصوصا عديدة عن بلادنا كما نشر رسوما متنوعة عن بعض الشخصيات الموريتانية: ففي عام 1853 نشر بوالا كتابه الشهير "ملامح سنغالية"، وقد نشر في هذا الكتاب رسوما من بينها رسوم لبعض الموريتانيين، وتعتبر من أقدم الرسوم الموريتانية المعروفة.

 

ملاحظات أولية

 

تشكل نصوص هذه المدونة مادة أدبية غنية من عدة نواح: غنية من الناحية العروضية حيث نجد فيها العديد من بحور الشعر الحساني (بت خمس، ولبتيت الناقص، وابير تڨادرين وامريميده وبوعمران ولبتيت التام)، كما أن في معجمها ألفاظا وتراكيب لم نعد نعرفها اليوم، فهي تعود فيما يبدو إلى عصور متقدمة من تطور اللهجة الحسانية. ثم إن بهذه المدونة أغلب أغراض الشعر الحساني من غزل ومدح وهجاء وحماسة، كما أن بها –وهذا في غاية الأهمية- نصوص تتحدث عن أماكن من جميع جهات الوطن من الحوض إلى تيرس إلى آدرار فالترارزة فالعصابة فتڨانت فالبراكنة.

غير أن الراوي، الذي نظن أنه أملى هذه النصوص أو نسخها من ذاكرته، لم يصححها فجاء بعضها غير مستقيم وزنا. فهل كانت تلك الأخطاء العروضية من الراوي أو من الناسخ أم منهما معا؟ غالب ظني أن الراوي كان يستسهل في روايته، ويُغَلب المعنى على العروض فيأتي باللفظ الذي يأباه الإيقاع ويترك مرادفه المطلوب وزنا والمقبول عروضا. ومن أمثلة ذلك أنه كتب هذا الڨاف: يا مولان مغياسِي ۞ فيه اتراعِي

محسود الْ ولفِي ۞ وانجر اكراعي

وربما يكون الراوي قد جعل مغياسي (مغواسي) مكان ضعفي فهما مترادفان، ولم يولِ الراوي أهمية للروي ولا لإيقاع "حثو الجراد" أو "بت خمسَه" لا في التافلويت الأولى ولا الثانية. ولعله أراد: (حثو الجراد)

مُولاَنَ ضعفِي ۞ فيه اصَّ اتراعِي

محسود ال ولفِي ۞ وانجر اكراعي

وهذا النوع من الأخطاء التي تكسر الوزن وتغير الإيقاع موجود في هذه المدونة وهو يدل على استسهال الراوي وعدم ضبطه واجتهاده أحيانا. ومن ذلك أيضا هذا الڨاف: اللَّي كنت وينڨالْ ۞ عن من عزة لعْلياتْ

أثرُو كامل تسدار اجمالْ ۞ العزة كيفن جاتْ

فهل المقصود: (لبتيت الناقص)

اللَّي عنِّي ينڨالْ ۞ من عزة لعْلياتْ

أثرُو تسدار اجمالْ ۞ العزة كيفن جاتْ

وهذه الأخطاء العروضية، على إزعاجها، لا تقلل من الأهمية التاريخية والثقافية لهذه المدونة، بل إنها قد تغتفر في سبيل القيمة التاريخية والأدبية لهذه النصوص القديمة التي تعطينا صورة عن اهتمامات الموريتانيين بالأدب الحساني في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

 

من مضامين هذه المدونة

توجد بهذه المدونة نصوص في النسيب والحكمة والحماسة جيدة منها: (لبتيت الناقص)

أصل احمدت القيوم ۞ اللي سغمي باري

وامن الغيدات اليوم ۞ اركبت المجاري

وفي هذا الڨاف كناية وهي "اركبت المجاري" أو "اركوب المجاري" ومعنى العبارة أن يركب الإنسان ظهر الدابة ورجليه في جهةٍ واحدة، وهو ركوب يفعله المهرة الذين لا يخافون سقوطا عكس المبتدئين فهم يركبون وكل رجل في جنب من جنبي الدابة. وصارت العبارة كناية عن الاستسهال والاستراحة. ومن الحكمة هذا الڨاف: (لبتيت التام)

رِيڨْ العَارْ إبَوْرِي الاحْرارْ ۞ واسمنْ بيهْ اللي ماهُو حر

ومُرِّي يا صَرْطَ فيكْ العار ۞ وصارطهَ يعطيهْ الظر

أي أن البخل يودي بالأفاضل ويستمريه الأراذل، وسحقا وبعدا لمن استساغه.

ومن نصوص الغزل الواردة في هذه المدونة: (لبتيت التام)

باتتْ من فْڨْدْ الريمْ العيْنْ ۞ شورْ ابرَڨْ يخلف طرَّافَ

ء بات الدمع امراود وَحْدينْ ۞ انْبَلُّو واخَيْرْ انشاف

وكذلك: (لبتيت التام)

سَدَّالِي من دونك عريظ ۞ ياللي دلالي مولع بيك

وساهَ فات ءُدَيْ البيظْ ۞ غير إلى ززتُ مارڨ فيك

وهذا الڨاف: (ابَّيْرْ تڨادرين)

دار اغورط دمعِي انصب ۞ عڨلِ وادْليلُ ماتُ

وعْدِ بالونْسَ واطرَبْ ۞ مَبِيتُ وادويْراتُ

وهذا الشاعر أبطأت به الأقدار في السنغال فتذكر مرابعه وقال: (لبتيت التام)

أيامي في إسنغان اشحاحْ ۞ حاكمني فيهم مكتوبي

يا من صابْ اتفاڨي الارياح ۞ ءُ تخمامي هو مركوبي

وهذا ڨاف من المدونة غزلي: (لبتيت التام)

اللي هالتْ باظحيكته ۞ ءُ من سغم الخاطيه بار

كنت اڨبل جاحد عزته ۞ غير اليوم أوجهَّ وارِ

 

نصوص من شتى مناطق موريتانيا

 

ورد في نصوص هذه المدونة ذكرُ مَالْ وشڨَارْ وأڨَانْ وتنڨَرَاشْ وهي مواضع في منطقة البراكنة وربما يكون قائلها من تلك المنطقة. ومن أمثلة ذلك: (لبتيت الناقص) دلالي شام ابمَالْ ۞ غير الواجعني فيه

كان اتلاحڨ دلال ۞ سيدي محمد بيه

وكذلك هذا الڨاف: (لبتيت الناقص)

دلالي ڨطع أجار ۞ واڨطع لمكيد بيه

واشرطْ واعد شڨار ۞ واڨان ءُ حكم إريه

وهذا الڨاف من ذلك: (لبتيت التام)

اللِّي بيَّ من ذو الايام ۞ تخمامِي بالغيدات الياش

ذكروهالي نزلت باخيام ۞ عادو يسڨو من تنڨَراشْ

وهذا نص يتحدث عن انتاجاط وهي مكان في تيرس وفيه قبر امحمد بن الطبلة الموسوي اليعقوبي: (ابَّيْرْ تڨادرين)

مَزيَنْ مَا تلْ انتاجَّاطْ ۞ بعدْ اظْحَ رَزِمْهَا آعيَاطْ

ءُ حسْ البَاغمْ باحصيهْ شاطْ ۞ ركبتْ طافيلْ اظْرَايَ

عترَاسينْ الفتنَ آڨحاطْ ۞ منَّاعينْ العوَّايَ

وغالب الظن أن هذا الكاف لأحد شعراء الحوض لذكره ترمسَّ وباغنه وهي مناطق معروفة هنالك: (مريميده)

اللي انْزل في ترمسَّ ۞ وافباغنَ من نسوينَ

أغلاهْ في ادليلِي ونسَ ۞ واغلاه ظحكَ واسنينَ

وفي هذه الطلعة أماكن في آدرار: (لبتيت التام)

كديت شاو وتريدكلين ۞ والمڨف والعين وترين

اللي تزهي منهم للعين ۞ مين انڨطع كاو افالغراد

ويجُ الاغراد اعليَّ عين ۞ الڨشريَّ دار العراد

سبحان اللي عمل المعروف ۞ ماهو ياسر عاد افلعباد

ماذ دون اقبيت من شوف ۞ عڨلَه واكردود وتحداد

وعلى هذا الڨاف الحماسي الوارد في المدونة رونق شعراء تڨانت والعصابة: (لبتيت التام)

احنَ هومَ عرب أزناڨَ ۞ ڨيامين اجَّيْشْ اسحيلَ

فَرُو منّ يكسر صاڨَ ۞ وارڨاج ابذيك الحيلَ

وهذا القاف من الواضح انه من منطقة الترارزة ففيه مدح لأحد رجالاتهم ولعله الزعيم بابه ولد أعمر ولد الشرغي ولد اعلي شنظورة وكان من سادات الترارزة: (لبتيت التام)

أولاد آدم ديمَ تشار ۞ وبعد الشر ال يتراظاوْ

كون اعلَ ول أعمر والعار ۞ مفتتنين ولا يتخاواو

 

الشعر الحماسي حاضر بكثرة في المدونة

 

ويكثر الشعر الحماسي الفخري في هذه المدونة وهو أمر مستساغ حيث إن النصف الأول من القرن التاسع عشر عرف حروبا كثيرة واحتكاكات متعددة لذلك فإنه ليس من الغريب أن تعكس المدونة ذلك البعد من الحياة الاجتماعية: (ابَّيْرْ تڨادرين)

امنينْ اللي جينَ آوْحَڨ ۞ ما كذبْ اللي احظرْ ما اصْدڨ

لاهل الرڨ انحسدو افرڨ ۞ هبتْ ڨوم اندرايَ

واهل السدرايَ ما امرڨ ۞ منهم حد السدرايَ

ومن النصوص الحماسية هذا الڨاف: (لبتيت التام)

يومنْ نزلو فرْع إمجيجْ ۞ رَاهُو مَرْ إبان المغلوبْ

رب المحصر بات افلهجيج ۞ حاش مولانا من لهروب

وفي المدونة نصوص حماسية لا تخلو من هجاء للبعض واستنقاص لأشخاص فألجمت اللسان عن إيرادها وأثنيت العنان عن تفصيلها.

وفي المدونة نصوص عليها سمة الشيخ محمد المامي رحمه الله بل إن بعض ما في هذه المدونة منشور في ديوانه الشعبي المنشور: (لبتيت التام)

اسمعْ يلي تفهمْ هاذَ ۞ نعطيك المارَ والمارَ

يومنْ تَبْڨَى غدَيْجَاذَ ۞ مندج مندجْ ڨبلتْ دارَ

مدفعْ حمدي مزال إسوسْ ۞ وأمجارْ إبدَّلْ حالَ

والمختار أرَيْهُ مدسوس ۞ والسبعيَّه تلعبْ صالَ

وكذلك هذا الڨاف: (لبتيت التام)

أهل الڨبله فايام اڨلال ۞ يسڨو ڨربَه من مَ بوغُ

يشرب منها غزي الاغلال ۞ وأولاد الصلاح إزوغُو

هذه ملاحظات كتِبت على عجل، ولم أتوخ فيها ما يطلبه المقام من ترو وتأن واستقصاء واستنتاج، ولعل دراسة متأنية لهذه المختارات الشعرية من نواحيها الأسلوبية والمعجمية ستعطينا صورة أوضح عن تطور اللهجة الحسانية في القرن التاسع عشر الميلادي، وعن دلالات النصوص المختلفة وسياقاتها.

انتهى.