القصة الكاملة لانقلاب العاشر من يوليو سنة 1978/ الحلقة السادسة والأخيرة

سبت, 07/11/2015 - 14:11

استكمال السيطرة، ووضع اللمسات الأخيرة على تشكلة اللجنة والحكومة:

 

أثناء القيام بعملية السيطرة وترتيب الأوضاع بعد اعتقال الرئيس، اتصل قائد الأركان المصطفى ولد محمد السالك بمدير الأمن آنذاك السيد يحي ولد عبدي، ليطلب منه إعطاء الأوامر لقوات الأمن، لكي تضطلع بمهمتها، لكنه وجده غائبا، وكان نائبه المفوض "لي" لاحظ أن هاتف المدير يرن باستمرار في غيابه، فأخذه فإذا بالمصطفى ولد محمد السالك على الخط، وكانت بينهما معرفة سابقة عندما كان المصطفى واليا على لبراكنه والمفوض "لي" يعمل تحت إمرته،

 فأخبره بأن المدير غير موجود، فأمره المصطفى بإعطاء الأوامر المطلوبة، وهو ما قام به على الفور، حيث أصدر أوامره لقوات الأمن بتنفيذ ما طلب منها، فكان غياب المدير فرصة ليصبح نائبه بالصدفة عضوا في اللجنة العسكرية.

ويروي الأستاذ أحمد الوافي أنه عند الخامسة صباحا اتصل به سيد أحمد ولد ابنيجاره وأخبره بأن كل شيء قد أنجز، وأمره بالتوجه إلى الإذاعة لإذاعة بيان الإنقلاب.

فتوجه إليها صحبة مولاي هاشم فوجداها موصدة الأبواب، فبحثوا عن شخص يفتحها لهما، فقبل أحد الضباط بالقيام بفتحها عن طريق تكسير الأبواب، لكنهم لم يعرفوا طريقة تشغيلها، فبعثوا في طلب الحرسي "مَمَيْ" الذي كان يتولى مسؤولية حراسة الإذاعة، بالإضافة إلي مركزه في الفرقة الموسيقية التابعة للحرس، التي كان "مَمَيْ" أيضا هو الرجل الثاني فيها.

وعندما حضر "مَمَيْ" إلي مبني الإذاعة، أخذ لهم الأشرطة العسكرية دون تمحيص، لذا كان أول شريط أذيع للإعلان عن الإنقلاب، هو: "النشيد الفرنسي"، دون معرفة منهم بحقيقته. وبعد ذلك أذيع البيان بالعربية بصوت خطري ولد جدو الذي كان آنذاك ناطقا باسم الحكومة، وتلاه بالفرنسية محمد محمود ولد الديه.

وقد تضمن البيان ثلاث نقاط، تعهد القادة الجدد بتنفيذها، وهي:

1- إيقاف الحرب.

2- إصلاح الوضع الاقتصادي.

3- وضع أسس لديمقراطية سليمة.

وحوالي الساعة التاسعة صباحا فتح المهندس إسماعيل ولد أعمر قاعة الاجتماعات بمكتبه بشركة اسنيم في انواكشوط، حيث تجمع فيه قادة الانقلاب المدنيين وصار كل واحد منهم يستدعي شخصيات أخرى يتوقع أنها مساندة، وهكذا توافدت الأطر المساندة والمستبشرة بالتغيير، حيث اجتمعوا تحت رئاسة شيخنا ولد محمد لقظف.

وحوالي الساعة الواحدة زوالا حرروا ملتمس تأييد للتغيير من أجل إعطائه سندا شعبيا، كما حضر في نفس الوقت قائد الانقلاب المصطفى ولد محمد السالك، الذي ألقى كلمة بالمناسبة شرح خلالها دوافع التغيير وأسبابه الموضوعية.

وعندما أذيع ملتمس التأييد ومعه أسماء الحضور الذين وصلوا حوالي 100 إطار، توالت ملتمسات التأييد والمساندة وخرجت المظاهرات الشعبية المؤيدة والمساندة في اليوم الموالي، حيث استقبلها أعضاء اللجنة العسكرية بالقصر الرئاسي.

ومن المفارقات التي حدثت يوم 10 يوليو، أن أحد الوزراء المعتقلين في منزل بمدينة انواكشوط اندفع يصفق عندما أذيع البيان العسكري رقم 1، معلنا الإطاحة بالنظام.

وقد انعكست حالة الانزعاج التي ظهر عليها سفير فرنسا بانواكشوط السيد "ليمون فيل" صباح العاشر يوليو من عدم تسرب أي خبر عن الانقلاب وفجائيته بالنسبة للفرنسيين.

وقد قام المهندس إسماعيل ولد أعمر بمبادرة منه باستدعاء السفير الفرنسي إلى مكتبه بشركة اسنيم، حيث وصل الساعة العاشرة صباحا وأكد له المهندس اسماعيل أن التغيير شأن داخلي وأن التعاون الموريتاني الفرنسي سيستمر وأن مصالح فرنسا في موريتانيا ستبقى مصانة ولن تمس بسوء.

 

تشكيل اللجنة العسكرية والحكومة والانقلاب المضاد:

 

بعد أن تمت السيطرة على الأوضاع في عموم التراب الوطني، صباح الاثنين العاشر من يوليو 1978، اجتمع القادة العسكريون للانقلاب المتواجدون في انواكشوط يومها، وهم: المصطفى ولد محمد السالك، وجدو ولد السالك، وأحمدو ولد عبد الله، في حين كان هيداله وبوخريص خارج العاصمة، وتشكلت اللجنة العسكرية بشكل فاجأ المدنيين، الذين كانوا متواجدين يومها بمقر شركة "اسنيم" بانواكشوط.

فقد كان الاتفاق المسبق يقضي بأن تشكل اللجنة من المدنيين والعسكريين معا، وأن تكون الحكومة مدنية صرفة، لكن اللجنة كانت عسكرية مائة بالمائة، أما الحكومة فكانت مختلطة.

والغريب في الأمر أن جدو ولد السالك لم يعترض على التشكلة، ويعزو الأستاذ الوافي ذلك إلى أنه ربما لم ينتبه إلى خطورة ما حصل وأنه تعامل مع الموضوع –كعادته- ببساطة.

فقد كان متوقعا أن يرأس الحكومة: شيخنا ولد محمد لقظف، الذي وُعد بالمنصب لعوامل متعددة، منها عامل السن.

كما أن سيد أحمد ولد ابنيجاره يرى أنه الأحق بالمنصب لكونه الزعيم الفعلي للجناح المدني.

ورغم هذه المسوغات، فلم يشغل أيا منهما منصب الوزير الأول، الذي احتكره رئيس اللجنة العسكرية لنفسه، وهيمن على القرار من خلال رئاسته للجنة العسكرية وللحكومة.

أما شيخنا فقد عين في منصب وزير الخارجية، وهو منصب يرى الأستاذ الوافي أنه قريب إلى قلبه، لكونه قد شغله في السابق.

وبالنسبة  لجدو ولد السالك فقد انشغلت الجماعة بالبحث عن منصب يناسب دوره، فقد كانوا يرون أن منصب قائد الأركان هو الأنسب بالنسبة له، لكن اعتبارات الرتب العسكرية حالت دون ذلك، لأن رتبته كانت رائد، بينما توجد رتب مقدم وعقيد في الجيش، وهو نفسه لم يكن مستعدا لترقية غير عادية، فأصبحت مشكلة إيجاد منصب يناسب جدو ودوره معضلة حقيقية، فهو -في نظرهم- هو صاحب الانقلاب، لكنه لم يكن مستعدا للرئاسة، بل تنازل عنها لصالح المصطفى، لذا طلب منه الزملاء المدنيون أن يكون قائدا للمنطقة العسكرية والمدنية بانواكشوط، أي واليا عسكريا ومدنيا على انواكشوط، وبرروا له ذلك بأن من يقوم بانقلاب عسكري ولم يسيطر على المراكز الحساسة، سيصبح لاشيء، لذا نزل عليهم تعيينه وزيرا للداخلية كالصاعقة.

فكانت الحصيلة إذن هزيمة عملية لجدو ولزملائه المدنيين، الذين يرون أنهم هم من أنجز الانقلاب وعمل بجد من أجل حصوله. لكن المصطفى ولد محمد السالك برر قراره بتوسيع اللجنة العسكرية برغبته في وحدة الجيش من خلال إدخال عناصر كانت معادية للتغيير، ولإرضائهم بوصفهم ضباطا كبارا، من أجل مساندة التغيير، لذا أُدخل أحمد سالم ولد سيدي والشيخ ولد بيده ومحمد محمود ولد لولي وعناصر من الزنوج، بما فيهم المفوض "لي"، الذي تم الاتصال به عن طريق الصدفة.

ورغم أن خيار المصطفى ولد محمد السالك قد تغلب إلا أن الجماعة الأخرى فرضت مجموعة من صغار الضباط فكانت سابقة قليلة من نوعها، تمثلت بدخول نقباء وملازمين في تشكلة اللجنة العسكرية.

كما أقصيت عناصر مهمة مثل: أحمد بن أعمر من التشكيلة الحكومية وأحمد الوافي وممد ولد أحمد، وهو ما أغضب المهندس اسماعيل ولد أعمر وأثر على ولائه بعد تشكيل الحكومة مباشرة –كما يروي الأستاذ الوافي.

كما استبدل محمد يحظيه ولد ابريد الليل ب "ابه ولد انه"، الذي كان وقتها شيخا كبيرا، فظهرت ثغرة تتعلق بالتوازنات، زادت من تعقيدات الموقف.

لذا سيطر أصحاب الرتب الكبرى في اللجنة العسكرية منذ اللحظة الأولى وتم استبعاد المدنيين من اللجنة، وبدأت بذور الخلاف بين المصطفى وجدو تظهر من تلك اللحظة.

فوقف سيد أحمد ولد ابنيجاره ومحمد يحظيه ولد ابريد الليل (وهما أعضاء في الحكومة) مع جدو ولد السالك.

أما الجانب الآخر فكان يضم المصطفى ولد محمد السالك ومعه الجميع، حيث كانوا يحرضونه على الجماعة الأخرى، لذا شكلت الحكومة على تلك الخلفية، حيث انقسمت المجموعة إلى جناحين:

1- معسكر من يرون أنهم أصحاب الانقلاب الأساسيين بقيادة جدو.

2- معسكر المصطفى ولد محمد السالك ومن التحق به من خارج الجماعة.

فعين محمد يحظيه ولد ابريد وزيرا للإعلام والثقافة، وسيد أحمد ولد ابنيجاره وزيرا للمالية والتجارة.

وهناك جانب آخر أظهر حجم الخلاف منذ اللحظة الأولى، وذلك عندما أمر وزير الإعلام والثقافة وسائل الإعلام العمومية بشن حملة ضد النظام المطاح به، حدثت ضجة كبيرة، حيث طالب البعض بأن لا يساء إلى النظام المطاح به، لأن ذلك سينكئ الجراح وهو ما يجب أن يعمل الجميع على تفاديه.

فتكرست إذن الخلافات بين أطراف الجماعة، كما أنه لم يعد سيد أحمد ولد ابنيجاره منسجما مع جماعته المدنية، واستبعد كذلك أحمد الوافي وممد ولد أحمد وأحمد بن أعمر من مراكز القرار، فبدأ القادة الجدد يواجهون المشاكل وهم مفككون، تتربص بهم عناصر في الداخل وأطراف خارجية.. الكل لديه لهفة في الانقضاض عليهم.

فالرئيس المصطفى ولد محمد السالك أحاط نفسه بالمجموعة المعادية للعناصر الفاعلين في الانقلاب، فعين "كادير" (عبد القادر ولد ابه ولد عبد القادر) مستشاره العسكري (رئيس المكتب العسكري)، لذا سهل علي المتربصين التخلص من جدو وجماعته في يوم واحد نهاية شهر مارس 1979 أي بعد ثمانية أشهر تقريبا من نجاح الانقلاب.

فقد أبعد جدو عن الجيش، وبقيت جماعته عاجزة عن القيام بأي رد فعل مؤثر.

وخلال هذه الفترة كان الصراع عنيفا داخل الحكومة وبلغ أشده بين المدنيين المشاركين في الانقلاب والعسكريين داخل الحكومة. وأمام واقع كهذا لم يستطع القادة الجدد معالجة أية قضية باستثناء وقف إطلاق النار الذي حصل في اليوم الثاني من الانقلاب، لذا تمت المفاوضات مع البوليساريو بفوضوية شديدة وارتجالية صرفة، فتارة يرسل للتفاوض سيد أحمد ولد ابنيجاره وتارة أخرى يتولى المهمة هيبه ولد همدي، وتارة أخرى يقوم بها المصطفى ولد اعبيد الرحمن... فكل ما نجح فيه القادة الجدد هو: توقيع اتفاقية سلام مع البوليساريو، تمت بقرار فردي من الرئيس محمد خونا ولد هيداله.

ويروي الأستاذان: محمد يحظيه ولد ابريد الليل وأحمد الوافي، أن الجانب المتعلق من الاتفاق السابق للانقلاب، والقاضي بإدماج عناصر الزنوج في الحكومة هو الوحيد الذي تم احترامه.

فسيد أحمد ولد ابنيجاره كان قد اقترح "سك مام انجاك"، كما اقترح ممد ولد أحمد صديقه "يوسف دياكانا" الذي عين وزيرا للصحة، كما تولى الدكتور "با عمر" وزارة التنمية الريفية باقتراح وتزكية من صديقه الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل.

ويري الأستاذ أحمد الوافي أن حزب الشعب" وميليشياته وهياكله الأخري حيث، قد اختفت جميعها صباح العاشر من يوليو، بل إن أطر هذا الحزب،  توافدوا فرادى وجماعات ليقدموا ولاءهم للحكام الجدد.

وأمام واقع كالذي عاشه القادة الجدد- والذي تضافرت خلاله عوامل زادت الأمور تعقيدا، وعمقت الصراعات الداخلية- كان هناك أيضا الوضع الاقتصادي والأمني السيئين، وكانت حالة الانهيار الشاملة، تضغط بقوة، وبدأت تظهر حركتا "افلام" و"الحر"، في وقت كانت القوى الأخرى مفككة وغير منسجمة، فـ"الكادحين" لم يكونوا منسجمين فيما بينهم وكانوا كذلك هم وأغلب الفرقاء السياسيين الآخرين.. كما كان القوميون أيضا غير منسجمين فيما بينهم. 

ويروي الأستاذان: ابريد اليل والوافي أنه من خلال هذه الثغرات تمكنت أطراف خارجية أيضا من الدخول إلى مركز القرار وبالخصوص فرنسا التي أُخذت على غرة والمغرب الذي فوجئ بالحدث.

فقد عين المغرب على الفور سفيرا من أقوى السفراء هو "السنوسي" كما قام باستدعاء السفير الذي كان معتمدا لدى انواكشوط، والذي يروي الأستاذ أحمد الوافي أنه سمع أن الملك الحسن الثاني قال لهذا السفير: أنت جالس في خيمة ليست لها أبواب وتحصل كل هذه الأحداث دون أن تعلم بها؟.

 

ردود الفعل الخارجية على الانقلاب:

 

يروي محمد يحظيه ولد ابريد اليل وأحمد الوافي أن ردود الفعل على الانقلاب لم تكن بالسلبية المتوقعة، فلم يحصل أي تطور خارجي يهدد التغيير، لذا بادر القادة الجدد إلى الاتصال بالدول المؤثرة في مجريات الوضع في موريتانيا وفي ملف الصحراء تحديدا، وتم ذلك على النحو التالي:

 

1- المغرب:

يروي الأستاذان: الوافي وابريد اليل أن الأولوية كانت بالنسبة للقادة الجدد تتمثل في الخروج من مأزق الحرب، دون الدخول في مأزق حرب أخرى مع المغرب، الذي كانت لديه قوات عسكرية داخل البلاد، لذا كرست الاتصالات المسبقة به من أجل تفادي أي مواجهة معه بعد حدوث الانقلاب.

وقد اتسم رد فعل المغرب بالاعتدال وقام بمغازلة القادة الجدد، وذلك عندما توجه إليه وفد موريتاني، سماه –آنذاك- القادة الجدد: "وفد الأركاب"، والذي يضم مجموعة من الوجهاء وهم: شيخنا ولد محمد لقظف، وسليمان ولد الشيخ سيديا، واحبيب ولد ابراهيم السالم، وبا بوكر ألفا، وأحمد الوافي.

وقد خاطبهم الملك الحسن الثاني قائلا: اتركونا ننثني ولا ننكسر، فأي مساعدة ترغبون فيها، سواء أكانت مادية أو غيرها فالمغرب على استعداد لتقديمها هو نفسه وكذلك بالنسبة لأصدقائه. ويروي الأستاذ الوافي أن الملك الحسن الثاني قام بحركة ملكية، فأخذ الهاتف واتصل بفهد وأخبرهم بعد الاتصال أن السعودية ستمنح موريتانيا مبلغ 150 مليون دولار، وهو مبلغ قال إنه يمثل فتحا كبيرا بالنسبة للقادة الجدد، لكنه مع ذلك شكل الضربة القاصمة لوحدة العسكريين، فقد اتخذه بعضهم حجة بأن المغرب ها هو يقدم ويقدم، ويتساءلون عن ماذا قدم الآخرون؟

فكان الموقف المغربي الأكثر من إيجابي، سببا إذن في تفكيك وحدة العسكريين، حيث طلب الملك الحسن الثاني من الوفد رقم حساب ولو باسم أحد أعضاء الوفد، لتحول المغرب فيه إلى موريتانيا مبلغا ماليا فورا.

وهو ما كانت موريتانيا في أشد الحاجة إليه لدفع رواتب موظفيها ذلك الشهر. أما المبلغ المقدم من طرف السعودية فقدم جزء منه على شكل تمويلات (45 مليون دولار) والبعض الآخر كان نقدا (30 مليون دولار)، أما البقية فلم تقدم.

وقد مارس المغرب ضغوطا كبيرة، لكي لا يتم التقارب بين موريتانيا وليبيا، وكانت ورقة الضغط الأساسية هي :الأموال السعودية.

 

2- ليبيا:

بعد نجاح الانقلاب بعث القذافي يوم 18 يوليو بطائرة خاصة إلى انواكشوط، ونقلت وفدا موريتانيا يرأسه الرائد مولاي ولد بوخريص وبعضوية أحمد الوافي والمحجوب ولد بيه، وعندما اجتمع الوفد بالقذافي طلب منهم أن تتحد موريتانيا مع الصحراء، لتنتهي المشكلة وخاطبهم قائلا: "فبوحدتكم ستستطيعون التغلب على كل شيء، فليبيا على استعداد تام لدعم هذا الخيار".

فرد عليه الوفد الموريتاني بأن موريتانيا مستعدة، لكن لابد لها من مرحلة انتقالية، حينها استدعى القذافي الصحراويين وحضروا فورا إلى القاعة، حيث دخل محمد عبد العزيز ومحمد الأمين ولد الليلي، الذي هو محمد الأمين ولد أحمد، وبقي الوفدان لاحقا مع بعضهما البعض، طيلة نفس اليوم في مكان واحد وتناقشا وجها لوجه.

فكانت وجهة نظر الوفد الصحراوي هي: أخرجوا من بلادنا وسنوقف عنكم الحرب، وكان موقف الموريتانيين هو: اتركونا في الأرض ونحن معكم في اللعبة، فمن الأفضل أن لا تبعدوا موريتانيا عن ساحة اللعب.

وكان أول مبلغ دخل خزينة الدولة الموريتانية بعد الانقلاب هو 10 مليون دولار جاءت من ليبيا دفعت منها رواتب الموظفين خلال شهر يوليو 1978.

 

3- الجزائر:

أما الجزائر، فلم تكن هناك صعوبة في الاتصال بهم لأن وقف إطلاق النار حصل في اليوم الثاني من الانقلاب، وهو أمر يمثل أولوية الأولويات بالنسبة للقادة الجدد.

ويروي الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل أنه عندما علم بوفاة الرئيس هواري بومدين أمر الإذاعة الوطنية ببث القرءان الكريم –رغم أنه لا علاقة دبلوماسية بين موريتانيا والجزائر-، وبعد اتخاذه القرار، اتصل بالرئيس المصطفى ولد محمد السالك وأخبره به، فدعا الرئيس فورا إلى اجتماع مشترك بين الحكومة واللجنة العسكرية (وهي سابقة لم تتكرر من قبل ولا من بعد، فلم تجتمع الحكومة واللجنة العسكرية في جلسة مشتركة، إلا في هذه المرة وحدها)، حيث تحدث البعض عن أن قرار بث القرءان الكريم، ترحما على الرئيس هواري بومدين، لا يمكن أن يتخذه إلا مجرم، في حين قال آخرون إنه قرار يحرج الحكومة، لكنه في النهاية حدث تصويت، فجاءت الأكثرية مع ضرورة بث القرءان.

ويواصل الأستاذ محمد يحظيه ذكرياته حول هذا الموضوع، فيقول: كان الرئيس المصطفى يميل دائما إلى تطبيق رأي الأغلبية وكان لا يتخذ قراره إلا وفقا للأغلبية، ويتراجع عندما تصبح الأكثرية ضده، ويستدل على ذلك بهذا القرار، وقرار إنشاء طريق كيفه النعمه، التي تنافست عليها شركتا "ميندز" البرازيلية و"كولاس" الفرنسية، حيث أرسل الرئيس الفرنسي "جسكار ديستان"، مبعوثا رسميا إلى الرئيس المصطفى يطلب منه أن تمنح موريتانيا الطريق إلى "كولاس"، ولما طرح الموضوع على الحكومة، رد أغلب أعضائها أن موافقته المبدئية على الطلب ليست ملزمة لهم، فاستمر النقاش حول الموضوع من الثامنة صباحا وحتى العصر، فجاءت الأكثرية ضد الشركة الفرنسية ومع "ميندز"، فطبق المصطفى قرار الأغلبية أيضا.

 

4- فرنسا:

لقد علقت إذاعة فرنسا الدولية على الانقلاب بأنه قام به شباب من الضباط الحمويين، في إشارة إلى جدو وأحمدو والمصطفى (هناك خلفية صراع بين فرنسا والشيخ حماه الله الذي نفته وتوفي في فرنسا سجينا).

لكن مبادرة المهندس إسماعيل ولد أعمر باستدعائه لسفير فرنسا صباح العاشر من يوليو إلى مكتبه، والتي كانت لطمأنة فرنسا وللتأكيد لها على أن مصالحها في موريتانيا لن تتضرر، لم تنه الإشكال.

فقد صرح وزير التعاون الفرنسي "غاغي" خلال ندوة صحفية بفرنسا بأن هناك شبه انزعاج مما حصل في انواكشوط، كما أثنى على الرئيس المختار بشكل مبالغ فيه، وهو ما مثل تحدِّ للقادة الجدد في نظرهم، كما انزعجوا مما حصل. ويعلل الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل الانزعاج الفرنسي بأنه عائد إلى أنه لأول مرة يتقرر أي شيء في موريتانيا دون أن يكون لفرنسا أي علم به ودون مباركتها.

وعندما بثت إذاعة فرنسا الدولية –خلال نشرتها الزوالية- تصريح وزير التعاون الفرنسي، انزعج القادة الجدد، حيث استدعوا سفير فرنسا إلى وزارة الخارجية الموريتانية، وكان سيد أحمد ولد ابنيجاره وزيرا للخارجية بالنيابة لوجود شيخنا خارج البلاد.

فاتصل سيد أحمد بمحمد يحظيه بوصفه وزيرا للإعلام وبجدو ولد السالك بوصفه وزيرا للداخلية وبمولاي ولد بوخريص بوصفه قائدا للمنطقة العسكرية السادسة، وبمعاوية وبإسماعيل ولد أعمر، واجتمع هؤلاء الخمسة مع السفير الفرنسي، وهو أسلوب خارج التقاليد الدبلوماسية، لكنه حصل بسبب حجم الاستفزاز الذي أحدثه تصريح وزير التعاون الفرنسي.

وخلال اجتماعهم بالسفير الفرنسي في وزارة الخارجية الموريتانية أخبروه بأن تصريح وزير التعاون الفرنسي يمثل موقفا غير مفهوم وغير ودي وغير مقبول، وطلبوا منه تفسير ما حصل. فرد السفير الفرنسي بأنه سفير وأن ما حصل تم على مستويات عليا، وأنه لا يملك أكثر من ذلك.

فحاول تبرير ما حصل وتهرب من تفسيره، فطلبوا منه أن يخبر الحكومة الفرنسية التي يمثلها بأن تقدم تفسيرا لما حصل، فإما أن تؤكد كلام الوزير أو تعتذر عنه خلال أربع وعشرين ساعة.

فرد السفير على أن هذا ليس معقول وأن الفترة قصيرة وأنه لا يستطيع التعهد بإنجاز شيء خلال أربع وعشرين ساعة، وأنه كلما يستطيع عمله هو: أن يرفع الأمر إلى الحكومة الفرنسية.

فكان رد الجماعة التي دخلت معه في الحديث –باستثناء معاوية- بأنهم إذا لم يتلقوا جوابا خلال أربع وعشرين ساعة، فإن موريتانيا ستتصرف، فكان التهديد صريحا من طرف القادة الجدد، الذين قرروا قطع العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا إذا لم تعتذر عن تصريح وزيرها للتعاون.

لكن الفرنسيين -حسب الأستاذ محمد يحظيه- فهموا بدقة ما كانت القيادة الجديدة تنوي فعله، خاصة أنه لأول مرة تقطع مستعمرة فرنسية في غرب إفريقيا علاقاتها الدبلوماسية بفرنسا وهو عمل سيضر بصورة فرنسا وسيسيء لها أمام مستعمراتها السابقة.

فقبل مضي أربع وعشرين ساعة من اللقاء بالسفير الفرنسي، أذاعت إذاعة فرنسا الدولية في نشرتها لمنتصف النهار الموالي تصحيحا لتصريح الوزير الفرنسي، حيث أكدت الحكومة أن التصريح أسيء فهمه وأنه تم تحريفه، ولم يتم بهدف الإساءة إلى النظام الجديد، وأن فرنسا ليس لها موقف سلبي اتجاه النظام الجديد.

 

خاتمـة:

هذا هو العاشر من يوليو –كما يرويه بعض قادته-، وهذه هي الصورة التي رسموا له، وانطبعت في مخيلتهم عن الحدث، وهي كذلك تمثل ذكرياتهم عنه، نضعها اليوم بين يدي القارئ والباحث والمهتم، لتشكل جزءا من الصورة، علَّ الآخرين يميطون اللثام عن رؤيتهم للحدث، وعن ذكرياتهم حوله، أو ما يمكن أن يكونوا قد كتبوه عن الموضوع في مذكراتهم قبل وأثناء وبعد التنفيذ.

قد تغيب جوانب من الصورة لرحيل أصحابها، وقد تشوه الذاكرة بعض التفاصيل، لكنه من حقنا جميعا –كموريتانيين- أن نضع تجربة العاشر من يوليو تحت المجهر، بعد مضي خمسة وثلاثين سنة على حصولها، وهي فترة كافية لتهدأ العواطف، مما يسمح لنا جميعا برؤية الحدث ضمن سياقه التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والاستراتيجي، دون تصفية حسابات مع طرف لم يعد خصما لنا جميعا، ودون حساسية لأن المسافة بعدت، ولأن أبطال المعركة شاخوا، وقد تشيخ معهم اهتمامتهم.

أما نحن فمن حقنا أن نستمع إلى الجميع دون استثناء وأن نحاورهم، وفي النهاية، يحق لنا كذلك أن ننتقدهم، وأن نناقشهم في كل ما ذهبوا إليه، سواء أكان ذلك على مستوى الأحداث أو على مستوى الأدوار والفاعلية.

فالتاريخ ملك لنا جميعا وليس من حق أي شخص أن يحتكر كتابته لوحده، كما أنه يجب أن لا يدون وفق رؤية أحادية وأن لا يصبح تكريسا لتمجيد طرف بعينه.

فهو مجموعة عبر نستخلصها من الحدث وعملية فهم يجب أن تتوخى الدقة وأن تسعى إلى الموضوعية، عندما نصبح باتجاه تحليل أو سرد أي حادثة وقعت.

وبالنسبة للعاشر من يوليو، فقد تكون الصورة اليوم أصعب، لأن أغلب قادته لازالوا –بحمد الله- أحياء يرزقون، وهو ما يزيد من الحساسيات ويضاعف من المسؤوليات، اتجاه ما يروى وما يكتب.

لكنها الحكاية، التي تجاسرنا على كتابة جزء منها، دون أن نرسم لها نهاية محددة، لذا من واجب الآخرين أن يكملوا الحكاية، ليتم فهم المشهد ولتكتمل الصورة وفق منطق: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب".

وأملنا كبير في أن تساهم هذه الشهادة وتنجح في نفض الغبار عن حدث لا زال حيا ولا زالت أطرافه الفعلية أو المفترضة، تعيش نقاشا حول الموضوع، كل ينعت الآخر بما يشاء ويصفه بما يفترض.

أما نحن فلسنا معنيين بموقف أي من الطرفين، ولم نساهم بهذا الجهد من أجل تبني وجهة نظر طرف على حساب الآخر، فأقصى ما نرمي إليه من خلال هذه الشهادة، هو: إثارة النقاش حول هذه المرحلة، وقد شجعنا على ذلك استعداد بعض الأطراف الذين كانوا وراء الحدث، لتسجيل شهادتهم على هذا التحول، علَّ الحقيقة تظهر، وعلَّ الحصار المفروض على التاريخ الموريتاني ينتهي، ليتمكن كل طرف من قول ما يرى أنه هو الحقيقة، ولكي يتسنى للآخر أن يقول رأيه بكل حرية، وبكل موضوعية إذا كانت الحقيقة هي خياره الأساسي.

لهذا نضع هذا العمل المتواضع أمام الجميع، ليحكموا عليه بما شاءوا، وبما يعتقدون أنه هو الحقيقة في نظرهم.

والله نرجو أن يوفقنا جميعا لما فيه مصلحة البلاد والعباد

حوار وإعداد وصياغة: محمد المختار ولد محمد فال-  كاتب صحفي.

 

ملاحظة: سجلت هذه الأحاديث في انواكشوط خلال شهري مايو ويونيو2008 وانتهت صياغتها بتاريخ: 28/06/2008 بمناسبة الذكرى الثلاثين للعاشر من يوليو سنة 1978