القصة الكاملة لانقلاب العاشر من يوليو سنة 1978/ الحلقة الأولى

سبت, 07/11/2015 - 13:59

بمناسبة الذكري الخامسة والثلاثين لانقلاب العاشر من يوليو، حرص موقع "النهار" على أن يقدم لمتصفحيه رواية شخصيات لها وزنها الوطني وكانت فاعلة في الاعداد والتنفيذ للإنقلاب الذي أطاح بنظام الرئيس المختار ولد داداه، تم تجميع عناصرها من خلال حوار مع تلك الشخصيات بتاريخ يونيو 2008  ولم تسمح الظروف بنشرها إلا الآن .. هذه الرواية التي لا أدعي أنني استخلصت منها جميع الجوانب التي تطرقت إليها تلك الشهادات، أو أحطت بجميع تشعباتها،

لكنني رغم ذلك سأشعر بمستوى من الرضي، عندما أنجح  في  وضع جوانب من الصورة اعتمادا علي بعض من خطط وشارك  في التنفيذ بالنسبة لحدث شكل محطة مفصلية في التاريخ الموريتاني الحديث، علها تكون لبنة ضمن البناء الكلي الذي لن يكتمل إلا بالاطلاع علي جوانب قد يدلي بها آخرون كانوا في قلب الحدث وساهموا في توثيقها.

 وقد ينبري للمهمة أيضا أولئك الذين يدركون أهمية التدوين، حتي لا يضيع تاريخنا الحديث، ويكون مصيره مثل مصير ماضينا خلال فترة ما قبل الدولة  عندما ضاعت تفاصيل هامة من حيات مجتمعنا، لاعتماده علي التداول الشفوي ولشح التدوين في  فضائه البدوي المنشغل بهموم الترحال والانتجاع.

لذا أردت أن تشكل هذه الخطوة مساهمة في كشف جوانب تهم معاصري الحدث ويتطلع إليها الاجيال التي لم تعاصرها وترغب في أن تعرف ماذا حدث وكيف حدث؟ وما هي الدوافع التي حركت  هؤلاء الرجال وجعلتهم يغامرون بحياتهم من أجل تحقيق هدف رأوا فيه إنقاذا لبلدهم، قبل أن ينقض آخرون على ما أنجز، بغية الخلاص الوطني وتلك  قصة أخري.. فما يهمنا هنا هو: حقيقة تخطيط وتنفيذ انقلاب العاشر من يوليو سنة 1978 من خلال محاورة شخصيتين من الجناح المدني كانتا ضمن  التنظيم السري الذي خطط للإطاحة بالرئيس المختار ولد داداه وكذلك طريقة اعتقاله ليلة العاشر من يوليو، كما يرويها قائدها.

وهم: عضوي الجناح المدني: المفكر محمد يحظيه  ولد ابريد اليل وذ/ أحمد ولد الوافي.. وقائد المجموعة التي  اعتقلت الرئيس المختار ولد داداه: الضابط المختار ولد السالك

حوار وصياغة وإعداد: محمد المختار ولد محمد فال- كاتب صحفي

 

 

مقـدمـة:

إذا كان البعض يتهيب من الحديث عن الحاضر، بحجة أن فصوله لم تكتمل بعد، أو أن الأحداث قد تتطور خلاله وتصل إلى وجهة غير متوقعة، ونتائج لم تكن في الحسبان.

إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لهؤلاء، فإن هنالك من تجاوز الحاضر إلى رسم آفاق المستقبل، يحلله من خلال العوامل والميكانيزمات المتحكمة في الظاهرة العلمية أو الإنسانية.

أما عندنا في موريتانيا، فإن الماضي لا زال عبارة عن "تابو"، يغامر من يمد إليه يده بالكتابة أو بالتحليل، سواء أكان بالإيجاب أو بالسلب، أو وفقا لموضوعية صارمة، يتوخاها ويحرص على الالتزام بها.

ولعل مرد ذلك هو: الطابع الشفوي للرواية التاريخية عندنا، وقابليتها لأن تتخذ وجهتين متناقضتين في آن واحد حسب الزمان والمكان، عكس التدوين الذي لا يقبل سوى صيغة واحدة -بغض النظر عن الصحة أو الخطأ-.

من هنا صار لزاما على المغامر، الذي يتجرأ على ملامسة التاريخ المتعلق بهذه البلاد، أن يلجأ إلى الحيلة، إما بإخفاء ما يكتب حتى يرحل عن هذه الدنيا، وعندها يصبح في حل من كل إحراج بدني أو معنوي.

أو يلجأ إلى التّقْيَة والمجاملة وعندها يرضى من الغنيمة بالإياب.

واقع إذا استمر، سيكون كفيلا بضياع الكثير من التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي لبلدنا، لذا صار لزاما علينا –قبل فوات الأوان- ولكي نستدرك ما يمكن استدراكه، أن نواجه هذا "التابو" وننفض الغبار عن قضايانا ومجمل جوانب التجارب التي مرت ببلادنا- كل حسب رؤيته- وأن نفسح المجال أمام هذا الاختلاف ليظهر على الصفحات، وعندها يصدر القارئ المعاصر حكمه، أو نتمكن علي الاقل من ترك مادة خام، يمكن للأجيال اللاحقة أن تكوِّن من خلالها صورة عن بلد غني بأحداثه، لكن أهله تجاهلوها وكانوا أشد حرصا على أن يحمدوا بما لم يفعلوا، بفعل ادعائهم العصمة في حاضرهم وتقديسهم لماضيهم، دون أن يدركوا خطورة هذا المسلك على تراثهم الثقافي والسياسي  الاجتماعي وضرر تلك السحب التي يراكمونها أمام الأجيال اللاحقة ليحجبوا بها الحقيقة عنهم، وهو ما سيشوش الذاكرة الوطنية ويحول تاريخنا إلى مجموعة استنتاجات مغلوطة ومموهة للحقيقة.

وأمام واقع كالذي نعيشه اليوم، والذي يضفي قدسية على أنساب القبائل والأسر ويرى أنها التاريخ الجدير -وحده- بالاهتمام، فإنه يجب علينا أن نتوجه إلى البحث والتدقيق في شؤوننا السياسية والثقافية والاجتماعية والاستراتيجية، لنغوص  فيها، علنا نكتشف من خلال البحث العلمي طبيعة البنيات والآليات المتحكمة في مختلف جوانب حياتنا، لنقدم للمهتم حقيقة واقعنا، ولنتمكن من فهم طبيعة التحول السياسي والثقافي والاجتماعي لبلدنا، الذي يتراءى للناظر المبتدئ، وكأنه في غاية البساطة والسطحية، قبل أن يكتشف لاحقا عند التدقيق أنه بلد شديد التعقيد والتنوع.. واقع دفع بالبعض إلى أن يصف الإنسان الموريتاني بالازدواجية أحيانا وباللامعيارية أحيانا أخرى.

وإذا كانت "شنقيط" قد شيدت هويتها الثقافية والحضارية في الماضي، ورسخت تفاعلا  نشطا مع محيطها العربي والإسلامي، تبادلت خلاله الأدوار مع الآخر، فتارة يحتل علماؤها وشعراؤها ورجالاتها الصدارة في بعض الحواضر العربية والإسلامية، وتارة أخري ينهل رجالاتها من فنون الثقافة العربية والإسلامية في تلك الحواضر أوفي فضاآت أخرى.. ويكون لهم صيت في فضائهم المحلي، بسبب فنونهم المستجدة التي استصحبوها معهم من تلك الجهات.

إذا كانت "شنقيط" هذه قد حسمت هويتها وتحددت وجهتها النهائية في السابق، فإن وريثتها: "موريتانيا" قد تأسست على رمال متحركة، وكانت ولادتها قيصرية، وأريد لها أن تلعب دورا غير الذي لعبته "شنقيط" التاريخية، حيث برر الفرنسيون احتلالها بضرورة التواصل بين المستعمرات كهدف وحيد معلن.

وحين قرروا توقيع شهادة ميلادها وفقا لحدودها الجديدة وتركبتها السكانية الحالية، تحولت المنطقة من موقعها الذي كانت فيه مركزا بالنسبة لجوارها الإفريقي ومنافسا معترفا به في المركز العربي والاسلامي إلى طرف وهامش مشكك في هويته ومجرد همزة وصل بين إفريقيا والعرب، وهي صفة أدت إلى انتقاد البعض لنظام الرئيس المختار لرفعه هذا الشعار ولتبنيه كحقيقة لا ياتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، هلل لها آخرون بوصفها فهما عميقا لحقيقة البلاد الجغرافية ولدلالتها الحضارية.

ورغم أن أول رئيس لموريتانيا كان ينظر إليه البعض ويصفه بأنه هو المؤسس الفعلي للدولة الموريتانية، وأنه شيدها وفقا لأفضل نموذج ممكن، بل لقبه  هؤلاء والاعلام الرسمي بـ"أب الأمة وابنها البار" طيلة 18 سنة.

إلا أن الموريتانيين عندما استيقظوا صباح العاشر من يوليو 1978 وجدوا بلدهم وقد أصبح ضمن فضاء سياسي مختلف ودخل تجربة غير مسبوقة، دشنت بالموسيقي العسكرية و وتم التعبير عنها من خلال البيان رقم1، الذي استمعوا من خلاله إلي جانب وجه آخر من الحكاية، ينعت نفس النظام بأنه نظام الخيانة والرشوة، لينطلق بعدها جدل لم ينته حتى الآن.

 فالبعض رأى في العاشر من يوليو نكسة لمسيرة موريتانيا نحو التقدم والتحديث والازدهار، بل إن أرملة الرئيس المختار ولد داداه السيدة "مريم داداده" نعتت العاشر من يوليو بأنه أسوأ يوم في تاريخ البلاد (مقابلة مع صحيفة "الأمل الجديد" إبان الاحتفالات بعيد الاستقلال أواخر نوفمبر 2007)، في حين لم ير فيه آخرون سوى صفتي الخيانة والرشوة.

فالعاشر من يوليو إذن يمثل محطة هامة في التاريخ السياسي لموريتانيا الحديثة، وهو حدث تحل علينا اليوم ذكراه الخامسة والثلاثين، في ظل جدل لا زال حيا:

أنصار الرئيس المختار يرون أنه وما تلاه، يمثلان هزيمة للمدنيين داخل السلطة ومقدمة عملية لتحكم النخبة العسكرية في مجريات الأمور بشكل جذري، وتحولت بفعله "النخبة المدنية" إلى أداة بيد العسكر، مقابل فتات زهيد.

في حين يرى مناوئوه أن الحدث، كان ثورة بحق على نظام شيده المستعمر ووطد أركانه، ووضع في مفاصله رجاله وخدام مشروعه الاستعماري، وأنه لم يكن في يوم من الأيام نابعا من الشعب ولا من حقيقته الحضارية، ويصرون علي أن هذه الثورة قد أجهضت بعد أشهر قليلة من الاطاحة بالنظام، عندما انقض عليها ضباط كانت نظرة زملائهم لهم بوصفهم أعداء للتغيير مبررا لعدم إشراكهم  لهم في العملية،  إلا بعد  أن اطمأنوا علي نجاح الانقلاب، وهو الخيار الذي دفع بسببه فرسان العاشر من يوليو الثمن غاليا- باعترافهم- عندما انقض الضابط أحمد ولد بوسيف ورفاقه علي السلطة وحولوا الانقاذ إلي خلاص وعندها تم تغير وجهه البوصلة باتجاه مغاير، لذا أجهض المشروع- في نظرهم - ودخلت البلاد في مطبات وسلكت منعرجات جديدة.. ليست هي ما كان يسعي إليها قادة الانقلاب عندما أطاحوا بنظام الرئيس ولد داداه - حسب روايتهم .

من هنا شكل العاشر من يوليو فرصة بالنسبة لقادته للانقضاض على نظام صنعته فرنسا صنعا وعلى حكم يرى في موريتانيا مجرد همزة وصل، وبالتالي، فإنهم يرون أنهم أعاد وا الأمور إلى نصابها الصحيح، لكنهم تعرضوا لثغرات خطيرة، عندما لم يؤمنوا موقعا مركزيا لقائد الإنقلاب: الرائد جدو ولد السلك، بفعل رفضه احتلال موقع قائد الاركان أو وزير الدفاع، لكي يضمن السيطرة علي الجيش، بحجة احترامه للتراتبية العسكرية- وهي مثالية يرون أنها أجهزت عليهم، وأدت إلي تعرضهم لمؤامرات أبعدتهم  خلال أشهر قليلة وكانت وراء ما حصل لهم من إخفاقات لاحقا.

ومن أجل تسليط الضوء على حدث تفصلنا عنه خمس وثلاثون سنة – وهي فترة كافية لتقييم ما تم ولأن أغلب زعمائه لا زالوا على قيد الحياة- فإنني أري أنها فرصة لتعميق النقاش حول هذه التجربة من أجل الوصول إلى بلورة تصور موضوعي حولها.. لذا فإننا اليوم نسعى من خلال هذا الجهد إلي  تدوين رؤية بعض من كانوا شركاء في هذا التحول وهي خطوة قد تفتح نقاشا حول هذه التجربة وتلك إيجابية أخري.

فإذا كانت الصعوبات الأمنية آنذاك هي وحدها التي كانت تحد من تلاقي جماعة العاشر من يوليو، فإنها اليوم أصبح التقاؤها أصعب، بفعل عوامل كثيرة جدت على حياة من كانوا وراء هذا الحدث، سواء بفعل الوفاة أو بفعل هموم الحياة وتناقضات المرحلة.. من هنا جاءت فكرة تقديم هذه الشهادة، لتكون مقدمة لإضافات ونقاشات حول الموضوع، علّنا بذا جميعا نكون قد وضعنا إحدى اللبنات الأساسية لفهم ما جرى.

فخلال إحدى جلسات (منتدى الفكر والحوار الديمقراطي سنة 2008)، دار حديث بيني وبين رجلين كانا فاعلين في الحدث، بل من أبرز قادته هما: السيدين محمد يحظيه ولد ابريد الليل وأحمد الوافي، وتطور الحديث إلى الاتفاق على تسجيل وتدوين شهادتهما حول العاشر من يوليو في ذكراه الثلاثين آنذاك، لكي لا تضيع الحقيقة وحتي تعرف الأجيال اللاحقة حقيقة ماجري وكيف تم؟ وكان ذلك فرصة لي للظفر بتدوين هذه الشهادة الهامة، علّها تكون فاتحة للحديث المباح بالنسبة لبقية زعماء العاشر من يوليو الآخرين.

وقد شجعني على المضي في الموضوع أن الرجلين رغم انخراطهما المبكر في التخطيط والإعداد، فهما رغم ذلك لا يدعيان امتلاكهما لوحدهما كل حقيقة ما جرى، واعترافهما الصريح بأن هناك شركاء بارزين آخرين، مثل: جدو ولد السالك وسيد أحمد ولد ابنيجاره، والمصطفى ولد محمد السالك، وأحمدو ولد عبد الله، ومحمد خونه ولد هيداله ومولاي ولد بوخريص، وممد ولد أحمد، ومحمد المختار ولد الزامل..إلخ، بالإضافة إلى الجماعة التقليدية مثل: شيخنا ولد محمد لقظف، وبحام ولد محمد لقظف، وأحمد بن أعمر، والحضرامي ولد خطري، وباممدو صمبولي، وعبد القادر كمرا، ويحي ولد منكوس.

وقد أضفت لروايتهما  رواية الضابط المختار ولد السالك- وهو شقيق زعيم الانقلاب الفعلي وصاحب القرار الحاسم الذي كان وراء نجاحه: المرحوم جدو ولد السالك- الذي روى التفاصيل الدقيقة لعملية اعتقال الرئيس المختار، التي كلفه بها شقيقه جدو عند ما انتدبه لهذه المهمة أثناء الإعداد وبعد تعثر التنفيذ، وهي العملية المحورية التي كان يتوقف عليها كل شيء، كما أن استماتته في التنفيذ سمحت بنجاح الانقلاب دون إسالة للدماء أو حصول إشكالات دموية أثناء التنفيذ.........يتواصل