اللغة العربية بين مكائد أعدائها وانهزام أبنائها!! / لمرابط ولد احمد الخديم (الحلقة 2)

أحد, 12/27/2015 - 12:26
لمرابط ولد احمد الخديم

ولك أن تسأل كيف تتهم اللغة العربية بالضعف والتخلف؟! وهي اللغة الوحيدة التي استطاعت أن تصمد أمام هذه التحديات السالفة الذكر...

 ولقد رأينا آنفا كيف أنها أجابت على تساؤلات المفكرين والفلاسفة في بحثهم عن نظرية لغوية عامة ،لا تنفصل فيها الصورة عن المادة تكون قاعدة لكل الفلسفات وترجمتها إلى لغة إنسانية, بعد توفر الشروط التي تؤهلها لهذه المكانة, لأنها اللغة الوحيدة من بين جميع لغات العالم التي مازالت موصلة الرحم بنشأتها الأولى. وأن لها ظهر وبطن؛ غير أن الخطأ ناتج عن كيفية التعامل معها حيث "أن قسما كبيرا من مشاكل اللغة العربية يعود إلى أسباب ذاتية، ونقصد بها ضعف همة أبنائها وقصورهم في القيام بواجبهم تجاه لغتهم التي هي لسان دينهم وعنوان هويتهم الثقافية ورمز سيادتهم الحضارية، وتفريطهم في مسئوليتهم التاريخية في الحفاظ على تراثهم وحماية وجودهم المعنوي..

 إن محنة العربية لا تتمثل في حشود الألفاظ والمصطلحات الوافدة من عالم الحضارة المعاصرة، إلى عالمها الذي يبدو متخلف، ليس ذالك فحسب ، بل إن محنتها الحقيقية هي في انهزام أبنائها نفسيا أمام الزحف اللغوي الداهم، واستسلامهم في مجال العلوم للغات الأجنبية، بحيث قد تكونت في العالم العربي جبهة عنيدة تجاهد للإبقاء على العربية بمعزل عن مجال العلوم والتكنولوجيا، فما دامت صفوة المشتغلين بالعلوم تعرف الإنجليزية أو الفرنسية مثلا، فلا بأس أن نعزل العربية "بل ونقتلها في عقر دارها". وإذا طبقنا القاعدة القائلة: إن اللغة كائن حي، يعتريها ما يعتري أي كائن من عوارض، وتقلبات الزمن ومتغيرات ومستجدات التي تطرأ. فإننا نجد أن حياة اللغة من حياة أبنائها، وهي تقوى أو تضعف حين يقوون أو يضعفون ""

 واللغة التي نشاهدها اليوم هي لغة هجينة تولدت عن تداخل اللغتين الفصحى والعامية وقد انتشرت على نطاق واسع داخل الأقطار العربية وخارجها حيث يوجد من يعرف اللغة العربية من الجاليات العربية, وممن تعلم العربية وهي ليست لغة الأم.

 واللغة الثالثة هذه، والتي صارت لغة الإعلام المعتمدة، هي منزلة بين المنزلتين، كما كان يقول أهل العدل والتوحيد في تاريخنا ! فلا هي اللغة الفصيحة في قواعدها ومقاييسها وأبنيتها وأصولها، ولا هي لغة عامية لا تلتزم قيودا ولا تخضع لقياس ولا تسري عليها أحكام ولكن ميزة هذه اللغة أنها واسعة الانتشار انتقل بها الحرف العربي إلى آفاق بعيدة ، ولكن الخطورة هنا، تكمن في أنها تحل محل الفصحى، وتنتشر بما هي عليه من ضعف وفساد باعتبارها اللغة العربية التي ترقى فوق الشك والريبة. وبذالك تكتسب هذه اللغة الجديدة(مشروعية الاعتماد)، ويخلو لها المجال، فتصير هي لغة الفكر والأدب والفن والإعلام والإدارة والدبلوماسية، أي لغة الحياة التي لا تزاحمها لغة أخرى من جنسها أو من غير جنسها "(218)

 وهنا نرى بالإضافة إلى ما ذهب إليه الدكتور التويجري (219) أن خطورة هذه اللغة الهجينة التي توصف بأنها عربية تكمن في تركيزها على طبيعة سير الحركة في الصيغة ومساوقة ذالك لطبيعة سير الحركة في الوجود وهذا هو هدف أعداء هذه اللغة الإنسانية وحرفها العربي محاولين بذالك استبدال هذه اللغة الإنسانية الهجينة بالفصحى، في رطانة تقضي على صلة القربى والرحم بين لفظ اليوم في لساننا ولفظ الأمس في لسان أوائلنا. فإذا ضاعت الأنساب اللغوية تبعتها، بل قد تسبقها الأنساب القومية في الضياع، حيث تصبح اللغة مقطوعة الصلة بحركة الوجود في سيرها..

 وغني عن البيان أن اللغة العربية التي استطاعت أن تترجم العلوم الكونية والفلسفية السابقة إلى لغة إنسانية وتقترح لها حلول لم تكن لتقف عاجزة أمام الشكل النهائي لهذه العلوم في ما يعرف بالتقدم الصناعي والتقني. وهذا ما يؤكد كلام التويجري السالف الذكر القائل: " إنما نشاهده اليوم ليس هو اللغة العربية الفصحى"، لكن هذا الضعف الذي تعاني منه اللغة العربية لم يكن وليد الساعة بل يرجع إلى قرون.

 ففي القرن السابع الهجري نعي العلامة ابن منظور في مقدمة كتابه (لسان العرب) ما صارت إليه حال اللغة العربية في زمانه من ضعف ووهن وهزال.يقول ابن منظور في مقدمة كتابه بعد استهلال ما يلي: "...وذالك لما رأيته قد غلب، في هذا الأوان، من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعد لحنا مردودا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودا، وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية, وتفاصحوا في غير اللغة العربية, وجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون".(220)

 ولعل هذا ما فتح ثغرات استغلها على مرور الزمن الاحتلال الصليبي للقضاء على اللغة العربية وإزالتها من الوجود خاصة في تلك البلاد التي كانت خاضعة له.

وهذا ما يفسر بعد ذالك اهتمام أوربا الشرقية والغربية بالعاميات العربية على حساب الفصحى ففي:

سنة 1727م تأسست مدرسة نابولي الإيطالية للدروس الشرقية واهتمت بتدريس العاميات العربية بدل الفصحى.

سنة 1745م تأسست مدرسة القناصل يفينا وكان من أهدافها تعليم القناصل والسفراء الأوروبيين لغات الشرق ومنها العاميات العربية.

سنة 1759م تأسست مدرسة باريس للغات الشرقية الحية وكانت تدرس اللهجات العربية العامية ومن بين مدرسيها المستشرق الفرنسي (دي ساسي) والشامي ميخائيل الصباغ الذي ألف لتلك المدرسة :" الرسالة التامة في كلام العامة". و" المناهج في أحوال الكلام الدارج".

وفي سنة 1814م تأسست مدرسة " الأزاريف" في موسكو. واهتمت بتدريس اللهجات والمحكيات العربية...

1856م تم إنشاء فرع اللغة العربية ولهجاتها بجامعة لندن المملكة المتحدة (انجلترا).

1891م تم إنشاء الكلية الملكية لعلوم الاقتصاديات الشرقية في المجر وكانت تدرس اللهجات العربية...

 (ورغم انتشار هذه اللهجات المحلية وتباينها أحيانا ورغم الظروف المتاحة للحملات المعادية للغة العربية من داخل العالم الإسلامي من القوميين (اللائكيين) من غير العرب (واللائكيين) الغرب من غير المسلمين بالإضافة إلى ما أسلفنا فقد باءت كلها بالفشل الذريع وتحطمت كل مساعيهم على صخرتها الصلبة بالفشل الذريع وتحطمت كل مساعيهم على صخرتها الصلبة وبقيت اللغة العربية وقد كان هدف هؤلاء هو إفساد نظام الحروف في اللفظ مما سيؤدي إلى إسدال الستار على الصيغة الجدلية برمتها.

ـ وهل يوجد دليل أقوى في محاولة القضاء على هذه اللغة من أن نرى أعداء يحيون لغات ميتة وأشقاء (221) وأبناء يحاولون قتل أو وأد لغة كتبت لها الحياة الأبدية والأمر في كلتا الحالتين يبعث على الاحتقار من الذات للذات فضلا عن الاحتقار المنطقي لأهل اللغة والتشفي الذي ينكي الكلوم في القلوب المؤمنة النابضة بالحياة..

 وهذا ما يظهر خطورة الغزو الداخلي بالمقارنة مع الغزو الخارجي حيث أن هذا الأخير نوع تقليدي يتم من أطراف فاعلين من خارج المجتمع المغزو، وهو غير خطير ـ نسبيا لأنه مكشوف وظاهر(لغير العميان).

أما الغزو الداخلي فإنه غزو ذاتي وهو مضمون النتائج وسليم العواقب.والغزو الخارجي نستطيع محاربته لأنه مكشوف ونحاكمه لأنه معروف، أما الغزو الذاتي فكيف نحاربه وأين نحاكمه، ومن يحاكم من؟ فالمفعول هو الفاعل والخصم قد يكون هو الحكم في نظر القانون!!

هذا وعلى رغم أنف الحملات التي تدار للقضاء على لغة الضاد في الداخل والخارج، الخفي والظاهر فإنها لم تزد اللغة إلا قوة واستمرارا....

 إن تحميل اللغة ما لا تحتمل يتوجه إلى مراد الناطق حين يحملها ما لا يُحتمل، أما اللغة نفسها فهي كالشجرة، فهي أكبر من كل محاضرات علماء النبات في كل الجامعات: لأنهم أعجز من أن يحيطوا بها، فالبحث في بناء اللغة أمر، وما يريده زيد الناس وعمرهم من نطقهم بألفاظها أمر آخر...

واللغة وسعت وتسع كل أهلها، وأما ألفاظ المتكلم فتسعه وحده وعلى قدره كأي قلم في يد أي كاتب فهو معه على قدره. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل من الممكن أن تعود اللغة العربية سيرتها الأولى؟!! وما هو سر قوتها واستمرارها؟!!...

 

 

.يتواصل....

 

أقلام