العلماء وثورة المداد والمحراب وصناعة القادة مواقف خالدة بين الفقهاء والسلاطين ؟!. د محمد المختار دية الشنقيطي

جمعة, 12/18/2015 - 11:39

الحلقة  الثامنة:  الإمام أحمد من نماذج  العلماء الصامدين عند الامتحان القادرين على العطاء في البلاء ومنارات الهدى للأحياء والخالد ين المزاحمين للشهداء بمداد الأقلام الرافعين في الحياة لواء الكرامة لنيل الشهادة شعارهم في مقارعة الطغاة:{ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}. الثائرين على الظلم والطغيان والتجبر والانحراف الفكري والعقدي  ؟!.

قال تعالى:{ واجعل لي لسان صدق في الآخرين }.

وقال تعالى:{ وإن تُطعْ أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون }.

 فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: فإني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول:" من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به  طريقاً من طرق الجنة والملائكة تضع أجنحتها رضاً لطالب العلم وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وأورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" .

وفي تاريخ الحياة أن الذين يعول عليهم في اقتحام الصعاب وتحطيم العقبات وإدراك الغايات أندر مما يفرضه حسن الظن وتوقع الخير، ولذلك قال الحبيب القائد القدوة والأسوة الشفيع–صلى الله عليه وسلم-:" الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة".

ففي دنيا الناس اليوم تجد أغلب من يتصدرون للقيادة العلمية والشأن السياسي قد ابتلوا بقصور الهمم ووهن المناكب وضعف الإدراك، وما يتبع ذلك من رذائل العجز المبعثرة بين العامة والهمل، فإنك تجد أم الرذائل تلاحق الجميع وهي: سوء النية، أو بتعبير أدق غش التدين، الأمر الذي يجعل من صاحب العمل والمحسوب على قوى العمل والإيمان والإخلاص: دسيسة مقحمة في العمل الإسلامي، أو على الأصح جرثومة تعمل ضد التمكين لقيم الدين، وأمة الإيمان، ومعول تثير داخل العاملين للإسلام الذي لهم عللهم، أسباب الانحطاط والتخلف والفتن  .

وإنك لتجد في ميدان العمل للإسلام  ناساً فاتهم من حظوظ الدنيا ما يكسبهم الوجاهة المنشودة، والمراكز المطلوبة، فالتحقوا بميدان الدعوة إلى الله يرجون فيه العوض الذي فقدوه، فتحول بهم الميدان الطهور إلى مضمار يتهاوش فيه فرسان التفيهق وعباد الذات وطلاب الظهور وعشاق الرياسة .

إن النفوس الدنيا لا يمكنها أن تقيم أحكام السماء، ولا تستطيع–وهي مخلدة إلى شهوات الأرض-أن تستجيب لتعاليم الوحي، أو تستقيم مع جوه النقي والتقى و الطهور، وإن ينابيع الخير التي أخصبت بها الحياة وازدانت بها الحضارة.. لم تنبجس من نفوس متحجرة كليلة فاقدة لبوصلة الإيمان، بل فارت بالري العذب من نفوس مفعمة بالكمال والأثرة مبرأة من الحقد والشح، والبخل، فياضة بالخير والسكينة والجمال، قال تعالى:{ إن الذين ءامنوا وعمل الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا}، وقال:{ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} .

والله جل في علاه يأمر الناس أن يزكوا أنفسهم وأن يزكوا بيئتهم، ومن ثم يكون جهادهم العام في ترقية الجماعة جزءاً من جهادهم الخاص في تهذيب غرائزهم وتقويم مسالكهم، وهذا مما بعث القائد القدوة والأسوة المعلم لتحقيقه في الناس، قال تعالى:{ هو الذي بعث في الأمين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين..}، فإذا لم يزكوا أنفسهم ويحققوا في عملهم وسلوكهم ذلك كان عملهم اختطاف واشتغال بالسلب والنهب تحت ستار العمل للإسلام.

 والله جل في علاه يحذرنا من الاغترار بهذا الصنف من أدعياء التدين والمتفيهقين فيقول:{ فلا تطع المكذبين. ودوا لو تدهن فيدهنون} ؟! والله:{ لا يصلح عمل المفسدين}:{ ولا يهدي كيد الخائنين}. وقال: { إلا من أتى الله بقلب سليم}.

والنبي المبلغ عن الله والذي لا ينطق عن الهوى–صلى الله عليه وسلم- القائد القدوة والأسوة الشفيع يقول:" ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً".

ومن حق العقلاء أن ينبذ تعاليم الدين إذا قدم لهم على أنه  داعم للظلم وسند للاستبداد، أو أنه مرادف لجمود الفكر وقسوة الطبع وبلادة العاطفة، وانتكاس عن الجادة، وتغير لفطرة الله في النفس ومنطق الحق في شؤون الحياة كلها، لأنه يومئذ لن يكون الدين الحق الذي نزل من عند الله، بل أهواء من عند الناس، وتزين من الشيطان، ولن يكون السير عليه ساعة ئذ تقوى ومثوبة بل معصية وعقوبة ...

إن الله جل في علاه بعث نبيه الكريم وجعل رسالته مدداً لقوى الخير والنماء بعد ما كادت تضمحل أمام شرور الوثنيات الطاغية، والتي ألغت حرية الإنسان في ميدان السياسة، وجعلت للخرافة محاريب مهيبة وسلطات مقدسة، قال تعالى وهو يخاطب نبيه- صلى الله عليه وسلم-:{ تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم. وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.

ولهذا صار أتباع محمد- صلى الله عليه وسلم- يرحبون ويفرحون بكل حرب تعلن على الدجل والشعوذة والخرافة والكهانة،والظلم، والفساد، لأن بواعث الإيمان الصحيح هي التي تثيرها، أو بواعث السخط على الرذيلة والجهالة المغرورة، فالأولى حق يرضاه الله،والأخرى عقل يؤيده العلم والواقع، والمصيبة العظمى أن يتخذ الدين ستاراً لذلك الدجل والشعوذة والغوغاء .

والله جل في علاه يحذر المؤمنين من أولئك الرهبان الذين عرف الدين في سمائهم ولم يعرف في شمائلهم وأفعالهم فقال:{ يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله}،.

والعلماء الهداة الربانيون الدعاة، هم المجددون لرسالات الله على منهاج النبوة وهاديات الوحي، سمتهم وسيماهم: التجرد للحق، والدلالة على الله بالحال والمقال، فإذا فقدت فيهم هذه الصفات، كانت الغواية والضلال منهجهم وديدنهم، فإذا فقدت فيهم خصلة التجرد والإخلاص، بأن أغرتهم المنافع العاجلة فأقبلوا على السحت وأموال الناس المغصوبة في يد الحكام والسلاطين أو في أيدي بعض الناس يغتالونها، وإذا فقدت خصلة: الدلالة على الله بالحال والمقال، بأن هبت من سريرتهم رياح تنفر منهم وتبغض الناس فيهم وفيما جاءوا به، فاؤلائكم هم الكهنة الذين كلف إمام المرسلين بمجافاتهم وترهيب الجماهير من اتباعهم، والمسلمون مكلفون في كل عصر، وخاصة العلماء بمقتضى وراثة النبوة بحربهم، وتخليص الناس من غيهم بنشر قيم الدين الحق، أبرز وظائف الربانيين من العلماء الوارثين لمنهاج النبوة، ووظائف ومقاصد التجديد والإصلاح .

ولقد كانت للإمام أحمد وبمنهجه السلفي صولات وجولات في الجهر بالحق ومواجهة ولاة الأمور بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جهارا نهارا وفي مقام مجموع له الناس وفي مكان مشهود فيه عامتهم مجموعون، وهو الذي يقول وسياط الطغاة تنهال على ظهره المحدودب من الشيخوخة: اللهم إن قبلت عن عصاة أمة محمد–صلى الله عليه وسلم فداء فاجعلتى فداء لهم.. ويقول في سجوده اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق.

 إنها طبيعة الخير المتغلغلة في أعماق هذا الإمام في محنته وفي عبادته وخلوته مع ربه، وفي حياته كلها، والذي حسب الكثير من أنصاف المتعلمين ورواد الشعوذة الشانئين له أن دعوته وتقواه يغلب عليهما التزمت والجمود، وأن مذهبه في الفقه تحكمه القسوة والصرامة،لقد كان الإمام أحمد بن حنبل الذي جعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدع، وهذا هو سر العداء له ولمذهبه ودعوته !! .

لقد كان شعار هذا الإمام هو قول الله تعالى:{ فمن عفا وأصلح فأجره على الله}.

وكان منهجه في الحياة ومع الناس يقوم على:{ وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم}. مع الدعوة والاستمساك بالدليل، والحرب على الزندقة والخرافة والشعوذة، والصبر على البلاء .

إن الإسلام يعلم أتباعه أن الرجولة لا تحقد، وأن الأتقياء فوق الأهواء، وأن رغبتهم في انتشار الخير وثبوت الحق أسبق في أفئدتهم من رغبة التشفي وسورة الانتقام لأشخاصهم .

إن من سنن الله الماضية في الأنفس والحياة أن الحاكم, أي حاكم: ما إن  يشعر ومن قديم الزمان بتفرده بالسلطة وتحرره من فاعلية الرقابة الشعبية حتى يدفع به منطق العلو إلى الغرور ويجنح به البطر إلى حب إظهار التفرد بالسيطرة على مقومات الوجود الإنساني وأسباب الحياة الطبيعية وهو المنطق الذي سجله القرآن على لسان كل من طغى وتجبر قال تعالى:{ أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون { وقال:{ ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}.

وبالمنطق نفسه يتحدث كل حاكم مستبد متسلط تحدثه نفسه ويزين له خدمه من وعاظ السلاطين بأنه الفعال لما يريد وحقه أن يختار للناس ما يشاء ليس في تدبير شأنهم العام, وإنما في مستوى تفكيرهم وذوقهم وأحلامهم وآلامهم وأفراحهم وأتراحهم, وهو يعتقد أن هذا هو حقه الطبيعي الذي كسبه بقوته وصولجانه ومقتضى ملكه وله الحق المطلق في تجسيده وفق منطق:القوة والقهر , حتى وإن داس الكرامة وامتهن الشرف وجلد الظهر وجز الرقاب، ونهب الأموال وبعد أن أثبت حقه بالسيف في ملك موارد السماء والأرض وتقسيم الرعية إلى شيع وطوائف على مقاسات الولاء والطاعة لخباله وهواه  قال تعالى:{ إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المسرفين}. وفرعون في القاموس القرآني هو لقب لكل حاكم ظالم متأله .

هذا المنطق هو التعبير الصادق عن سنة الله الجارية في الناس تعبيرا عن منطق الطغيان المستخف بوعي الناس وقدرتهم على الإدراك واختيار الصواب, والمخالفون لما في حسه وكما سجل القرآن عن منطقه:{ إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون, وإنا لجميع حذرون } .!!

لقد كانت بغداد في فسحة من حرية التفكير وسعة الاجتهاد وحرية في الآراء حتى جاءها كتاب الحاكم المتجبر الظالم المأمون الذي بعث به إلى واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم يأمره فيه أن يجمع القضاة والمحدثين وأرباب الفتوى من العلماء ليمتحنهم في موضوع خلق القرآن ! وإنها لشنشنة الظالمين المستبدين؟

وتفاجأ الناس في أنحاء المدينة بوجود أئمتهم من الفقهاء يساقون إلى بيت الوالي معجلين حتى إذا قابلوا الوالي في جمع حاشد من العلماء, قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين المأمون يسألهم فيه عن قولهم في القرآن: مخلوق هو أم غير مخلوق !

فدارت مناقشة محتدمة وافق بعدها أهل المداراة من فقهاء السلطان على مذهب الخليفة وعارض الصادقون المخلصون, وبعث الوالي الذي كان لا يفقه شيئا في المناظرات والجدال الردود وكما قيلت وهو ينتظر ما سيكون !

الأمر بكل بساطة: عتو وتجبر وكيدً: للعلماء من المأمون المغرور بسلطانه, أو المفتون بذكائه وتسابق الناس لطاعته الأمر الذي جعله يتصرف تصرفا لا يليق بمكانته كرأس لدولة الإسلام !

فقد نصب المأمون نفسه خصما وحكما يجرح ويعاقب من يخالفه من العلماء,وهو المفروض أن يكون المسئول عن صيانة الحرمات والأعراض والأموال والدماء, واتجه المأمون في خصومته الفاجرة إلى أئمة الفقه والدين وعلى رأسهم هذه المرة إمام أهل السنة والحديث الإمام أحمد بن حنبل شيخ المحاربين للبدع، والذي رفض جملة وتفصيلا بدعة القول بخلق القرآن ؟! .

رد المأمون كتاباً آخر إلى واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم يأمره فيه أن يرسل له من يخالف القول مكبلا بالأصفاد !! وشاءت الأقدار أن يكون على رأس المساقين المقيدين بالسلاسل والأغلال: الإمامان أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح اللذان سيقا في قيودهما إلى طرطوس يصحبهم التنكيل والتوبيخ على معارضتهما جهارا نهارا وفي الجموع المشهودة من الناس ما عليه الخليفة وما يدعو له !!

وكانت رحمة الله قد سبقت بمحمد بن نوح فاستشهد في الطريق قبل أن يترصده العذاب في مجلس الخليفة ولي أمر المسلمين ؟!

وسار الإمام أحمد في قيوده وحيدا دون رفيق, وفي أثناء الطريق جاء نعي المأمون فظن الناس أن يفرج كرب الإمام, ولكن  طوابير الشر من حاشية الأمير زينت للمعتصم أن يواصل الامتحان فالتعذيب عملا بوصية أخيه المأمون, وكأن الخلافة ستنهار إذا لم يقل الإمام أحمد بخلق القرآن ؟!

ولم يكن من طبع المعتصم الجدال وحب المناظرات كما كان المأمون, ووجد في نفسه الميل إلى مهادنة الشيخ الكبير الذي تجاوز السبعين من العمر الإمام أحمد, لكن شياطين الخبث والكيد من حاشية الملك من المتفيهقين أو فقهاء السلطان وسوسوا له في خبث ودهاء: بأن الأمر أمر دين وإسلام ودستوره القرآن, فلابد من المحاكمة يا أمير المؤمنين ليهلك من هلك عن بينة ؟!

وتحت ضغط حماية الملك وأبهة السلطة خضع المعتصم لوساوس الخبثاء من حاشية السلطة وعقد مجلس المحاكمة الرهيب للشيخ  الإمام  الصادع  بالحق, واستدعي الشيخ الوقور للمحاكمة مكبلا بالسلاسل, فدخل الإمام مكبلا ولما رآه المعتصم شيخا كبيرا سقطت أجفانه وتقوس ظهره, وفي يديه الأغلال شعر برهبة ضاقت بها نفسه, وزاده ضيقا وتحسرا صوت الإمام المجلجل بالحق وهو يقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين, فلم يتمالك المعتصم نفسه فقال: أجلس, ثم التفت إلى  أصحابه قائلا: زعمتم أنه شاب حدث السن ! فلم يجيبوا بشيء!!

 وقام الإمام أحمد الشيخ الوقور الو ضيء الوجه فقال: أتأذن لي بالكلام يا أمير المؤمنين ؟

فقال: تكلم عما تريد ! فقال الإمام أحمد للمعتصم: إلام دعا ابن عمك محمد-صلى الله عليه وسلم-؟ دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول  الله .

فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله!

سكت المعتصم حائرا, فانتهزها أحمد فرصة سانحة وقال: إن هؤلاء يا أمير المؤمنين يدعو نني أن أقول: إن القرآن مخلوق, وهو شىء لا أجده في كتاب الله ولا في سنة رسوله, فقد حدثنا يحى  بن سعيد عن شعبة, قال: حدثنا أبو حمزة, قال: سمعت ابن عباس يقول: إن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أمرهم بالإيمان بالله, فقال: أتدرون ما لإيمان ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله, وإيقام الصلاة , وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج البيت, وأن تعطوا الخمس من المغنم, فهذا ما رواه جدك, وليس به شىء مما يدعيه هؤلاء من خلق القرآن .

فقال المعتصم متراجعا: إني لم آمر فيك بشىء, ولولا أني وجدتك في يد من كان قبلي ما تعرضت لك, ثم التفت إلى أصحابه فقال: ناظروه !

فقال أحدهم: ما رأيك في القرآن ؟

فرد الإمام أحمد يسأل: ما رأيك في علم الله ؟ فسكت المعتزلي .

فقال الإمام أحمد: القرآن من علم الله, فمن زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن علم الله مخلوق, ومن قال بذلك فقد كفر .

فقال المجادل الآخر من فقهاء السلطة والمنافحين عن الحكم: يقول الله تعالى :

{ ما يأتيهم من ذكر محدث إلا استمعوه وهم يلعبون }, أيكون الذكر محدثا وهو غير مخلوق .

فقال الإمام أحمد: تلك ليست فيها ألف ولام, فهي غير القرآن, والله جل في علاه يقول: { والقرآن ذي الذكر} بألف ولام وهو القرآن .

فقال المناظر الثالث : أكان الله ولا قرآن .

فقال أحمد: أكان الله ولا علم .

فقال المجادل: أليس الله خالق كل شيء .

قال الإمام أحمد: بلى .

فقال المعتزلى: والقرآن شيء مخلوق .

قال الإمام أحمد: يقول الله:{ تدمر كل شيء بإذن ربها},فهل دمرت إلا ما أراد الله؟

فينبري رابع ويقول: ما تقول في حديث عمران بن حصين:(إن الله قد خلق الذكر).

فقال الإمام أحمد: روى الحديث هكذا: ( إن الله كتب الذكر), ولم يرو:(إن الله خلق الذكر ) .

فقال المعتزلى: هناك حديث يقول: ما خلق الله من جنة ولا نار, ولا سماء, ولا أرض أعظم من آية الكرسي .

فقال الإمام أحمد: وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض, ولم يقع على القرآن .

فقال المعتزلي: قال تعالى: { إنا جعلناه قرآناً عربيا }, أيكون القرآن مجعولا وهو غير مخلوق ؟

قال الإمام أحمد يقول تعالى:{ فجعلهم كعصف مأكول }, أيكون المعنى: فخلقهم ؟

قال أحمد بن أبي داود: إن تشبثه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق, معناه أنك تنسب إلى الله جوارح, تكلم بها كالمخلوقين, وتشبيه الله بالمخلوقين كفر .

فقال الإمام أحمد: هو أحد صمد, لا شبيه له, ولا عدل.. وهو كما وصف نفسه .

قال المعتصم: ويحك ما تقول !

قال الإمام أحمد: يا أمير المؤمنين, أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله .

قال ابن أبي داود: يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل ؟!

ثم يخلو المجلس بين المعتصم وحاشيته, فيصيح فيهم ويلكم: إنه لفقيه عالم, وإنه ليسرني أن يكون معي, يرد على أهل الملك .

لكن نار الحقد وخبث الخصومة فعل فعله في نفوس معارضي الإمام فتفجرت عبقريتهم الخبيثة عن حيلة  جديدة فقالوا: يا أمير المؤمنين إنه يسب المأمون ويقول: إن الله أهلكه انتقاما له, وقد وصفه بالفسق والفجور .

فيقول المعتصم: وهل ذاع في الناس ما يقول ؟

فيضج الحاضرون من الحاشية بالقول: نعم, فيرد المعتصم, إذن لا بد من العقاب !

ولقد كان الإمام المجاهد الصادع بالحق في وجه الظلمة والولاة جهارا نهارا وعلى رؤوس الأشهاد يتمنى أن يضرب بالسيف ضربة واحدة تريحه منه فيلقى الله دون أن يفتن, وأخوف ما كان يخافه أن تأخذه السياط فتوجعه شدتها الملتهبة إيجاعا يضطر معه إلى التفوه بما يريدون  ؟

وفي صباح يوم المحنة الباكر يطلب الشيخ الوقور والإمام الفذ حبلا ويشد به مربط سرواله كيلا يسقط منه من شدة ما سيتعرض له من ضرب السياط التي ستلهب جسمه الذي أكلته الأيام والليالي, وتنكشف عورته ويتحدث بذلك الناس, ثم يحرص الإمام على التزود بزاد خاص هو الحرص على ثلاث شعرات من آثار رسول الله–صلى الله عليه وسلم- كانت معه فضمها إلى قميصه لتكون له نورا في قبره .

وثبت الله الإمام  المبتلى بسبب إصراره على الحق ووقوفه في وجه الطغيان الذي صوب عليه صنوف العذاب, روى الذهبي عن صالح بن أحمد عن أبيه أنه قال:

( لما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم, وقال ائتوني بغيرها, وقال للجلادين: تقدموا, فجعل يتقدم الرجل منهم فيضربني سوطين, ويقول له: شد, قطع الله يدك, ثم ينتحى ويقوم آخر, وهو يقول في كل ذلك: شد, قطع الله يدك, فلما ضربت تسعة عشر سوطا قال لي المعتصم: يا أحمد, تقتل نفسك, وإني عليك لشفيق, فينخسني الجلاد بقائمة سيفه, ويقول: أتريد أن تغلب أمير المؤمنين ومن معه !!

وقد قال بعض المحرضين: يا أمير المؤمنين, أقتله, ودمه في عنقي, فيقول المعتصم لي: ما ذا ترى, فأقول: أعطني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله لأقول بهما، الله أكبر: فليخسأ الزائفون الزائغون الظالمون من عباد السلطة والسلطان .

فسكت المعتصم قليلا, ثم قال للجلاد: تقدم وأوجع قطع الله يدك, فإذا ضربني الجلاد صاح المعتصم: أجبني, ويقول الناس: هذا إمامك فانفذ قوله, فأرفض, فيتقدم للجلاد أن أضرب بشدة, فيضربني, ثم أغمي على, فلم أدر ما بعدها إلا وأنا مطروح بدون قيد, فقال لي رجل ممن حضر: إنا كببناك على وجهك, ودسناك, وطرحناك على الأرض, فما شعرت بذلك, وآتونى بسويق فقالوا: اشرب وتقيأ فقلت: أنا صائم, ولا أفطر, وحضرت الظهر فصليت فقال لي ابن سماعة: تصلى والدم يصبغ ثوبك, فقلت: صلى عمر بن الخطاب وجرحه يثغب دما ) .

كان هذا طرفا من محنة إمام أهل السنة وشيخ أهل الحديث وإمام السلفيين بلا نزاع عند أهل العلم, ولم يسجل التاريخ أن أحدا من أهل العلم قال بأنه أخطأ في منهجه في رفض الظلم والوقوف في وجه انحرافات ولاة الأمر وكما فعل من قبله من أئمة الهدى المتبوعين في الفقه الإمامان مالك و أبو حنيفة, وغيرهم في هذا المنهج كثير من  الأصحاب وأئمة التابعين .

 فمن أين جاء دعاة السلفية المعاصرة، أو السفلية بالقول بأن منهج أهل السلف من أهل السنة والجماعة هو عدم الإنكار على ولاة الأمر, أو ألا ننصح لهم إلا سرا, وهذا ما لم  يقل به أحد من أئمة السلف ولا هو مما يستفاد من صريح القرآن, ولا من البيان النبوي في هذا الشأن ,قال تعالى: { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } وقال: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } .

 و قال الحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم-القائد القدوة والأسوة الشفيع :

" سيد الشهداء حمزة, ورجل عمد إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله " وقال : " نضر الله عبدا سمع مقالتي فحملها إلى غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه, ورب حامل فقه ليس بفقيه, ثلاث لا يغل عليه قلب مسلم: إخلاص العمل لله, والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم, ولزوم جماعتهم, فإن دعوتهم تحيط من ورائهم, ومن كانت الدنيا همه نزع الله الغنى من بين عينيه وشتت عليه ضيعته ولم يؤت من الدنيا إلا ما رزق, ومن كانت الآخرة همه  نزع الله الفقر من بين عينيه وجمع عليه ضيعته وأتته الدنيا وهي را غمة ". أو كما قال-صلى الله عليه وسلم .

والإمام أحمد رضي الله عنه-كان يفهم أن الإسلام يعلم أن العلم والفقه: طهر في العقل والقلب، ونور في الخلق والسلوك، واصطلاح مع الفطرة، واستقامة مع العدالة والنزاهة.. ولذلك لم يعرف في تاريخه مجامع للكهنوت، ولا مجامع للمنحرفين الذين يصنعون من ذواتهم همزة وصل بين الأرض والسماء، لهذا وغيره كان الأمام أحمد رافعاً لواء تحقيق التوحيد والأمر بالمعروف، ومحاربة من يخلطون نيات الجهاد بأعمال السوء، ويعملون لأنفسهم وهم يزعمون أنهم يعملون لله .

الإسلام في نصوصه ومبادئه يرفض كل فكر أو نظام يحجر على حركة العقل، أو يحد من نشاط العلم.. ويعتبر تحقير العقل والعلم: أن لا ينشأ في القلوب إيمان صحيح، ذلك أن القرآن يعلمنا أن صدق الإيمان يقوم على حسن التأمل في الكون وحسن الإدراك لمظاهر وأسراره يقول الحق جل في علاه مقرراً لهذه القيم:{ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطت}، فهذه الآيات هي من مفاتيح اليقين في معرفة الله وإجلاله وخوفه ورجائه .

لقد كانت حركة المنهج السني أو إن شئت فقل السلفي ترمي لبسط مناهج تنقية الدين من تحريف الغاليين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وتحرير العقل من الخرافة ، والتدين من الشعوذة، والفقه من الميوعة وخدمة الظلمة وصبغ التدين بالحيوية ، فهذا هو ما تأسست عليه المدرسة السلفية عند الإمام أحمد، وتأسست عليه عند الحركة الإسلامية  الإخوانية المعاصرة التي عرفناها وتعرفنا عليها ؟!!