الاستعدادات السعودية للحرب العالمية

اثنين, 11/30/2015 - 16:44

النهار- ليس تحليلاً أو توقعاً مخلوطاً بهوس نظرية المؤامرة، بل هي حرب عالمية مقبلة بالفعل، وأكاد أجزم أن السلاح لن يكون إلا جزءاً بسيطاً، بينما سنشهد مزيجاً من: المصالح، إظهار القوة، التمدد الأيديولوجي، الأحلام الطائشة، مضافاً إليها بعضاً من جنون العظمة، البحث عن مصادر جديدة للثروات ومحاولة أخلاقية لا تكاد تذكر في ردع قوى التطرف والشر. والسؤال يبقى في المنطقة العربية التي تشكل فيها السعودية الرقم الأقوى: ماذا أعدّت الرياض؟

منذ الأيام العشرة الأخيرة من شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، بدأتُ أرى مؤشرات هذه الحرب تتزايد وسط بحثي عن أجوبة وضعتها هنا، من أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وسط احتفالهم بالذكرى السبعين، إذ التقيت مسؤولين من أطياف عربية مختلفة، داخل المبنى الشهير وفي ردهات الفنادق المحيطة وسط صخب ليل مانهاتن، مروراً بجلسات مخازن الأفكار وتبادلها في مراكز أبحاث واشنطن (Think Tank)، وحتى حضور القمة العربية - اللاتينية في الرياض أخيراً.

وبين الأجوبة والتحليل والقراءة، والجلوس مع مقربين من مؤسسات السياسة، الحكم والأبحاث، يبدو جلياً أن السعودية، تتوجه وسط إيمان القيادات الكبيرة والشابة، إلى منعطف مهم ليس على مستوى السياسة الخارجية التي ظهرت في الشهور العشرة الأخيرة بلجم العبث الإيراني في المنطقة، وفتح ملف التحالفات الدولية سياسياً واقتصادياً وحتى اللغة المباشرة بطرد الأسد - الموغلة يديه في الدماء - من سوريا وربما الدعوة إلى محاكمته.
ملامح السعودية من الداخل هي باختصار: دولة لن تفتح الباب نهائياً لأي ضغوطات دولية خصوصاً في ما يخص ملف حقوق الإنسان الذي اتضح أنه كذبة دولية كبيرة، عندما صمت العالم سنوات عما يحدث في سوريا، واستيقظ عندما خاف الدب الروسي على تدفق سلاحه ومصالحه في الشرق الأوسط، وجرحت فرنسا في عمقها وتشجنت أميركا من التهديدات التي لا تتوقف. فدماء السوريين رخيصة وغيرهم يستحقون أن تحرك لهم ناقلات الطائرات.

 

وعلى رأس نكات حقوق الإنسان الاتفاق الغربي النووي مع طهران التي تشنق بالجملة على اللون والطائفة وحتى من دون محاكمة، وسط قلق الأمين العام للأمم المتحدة الذي لا يتعدى طاولة مكتبه وقهقهات المجالس وربما رسوم الكاريكاتور.
أما الكذبة الأخيرة فهي المسرحية البريطانية حيال السعودية في وسائل إعلامها وسيل العدوان الذي لم يهدأ. فلندن التي استقبلت الرئيس الصيني ووقعت معه عقوداً مليارية لم تتحدث بحرف واحد عن حقوق الانسان عقب تهديد صيني واضح بأن الاتفاقات ستلغى مع أول حرف أو كلمة تنتقد التنين، في الوقت الذي انكشف ان البريطانيون يحتاجون إلى مليارات الصين وما حقوق الانسان إلا ورقة ضغط لا أكثر.

ستطبق السعودية حد القتل في صنّاع الإرهاب والداعين له من الطائفتين (السنية والشيعية)، عقب محاكمات عادلة استغرقت سنوات للمهنية والتدقيق. ولن تكترث الرياض اليوم بأي انتقاد فهي دولة بسيادة مستقلة بنظام حكم يستند إلى دين بنيت الدولة عليه وهو الدين الإسلامي. فالنظام السياسي والحكم المحلي في منطقة القصيم وسط السعودية لا يصلح أن يطبق في ولاية أوكلاهوما وسط أميركا، والعكس بالعكس لقفل الهوس الغربي بتطبيق نظامهم السياسي والحكم المحلي وربما الاجتماعي على دولة تبعد عنهم آلالف الكيلومترات، فالعلاقة مصالح لا أكثر.

التوجه السعودي الثاني، هو فتح أبوابها أكثر للباحثين، الكتاب والصحافيين من أصقاع الأرض فالرياض ليس لديها ما تخفيه، لتقتل الهوس الغربي بفكرة "الدولة المقفلة". بينما لن تتجمل أو تجامل سياسياً وستبقى لغة الريال قائمة لمن يستحقها، لخدمة السعوديين أولاً ثم الحفاظ على من يحفظ الود: أشقاء وأصدقاء. وكان آخرهم قادة أمريكا الجنوبية الذين قالوها صراحة في الرياض على لسان ممثل رئيسة البرازيل، رئيس اتحاد دول أميركا الجنوبية :"لا نتدخل في الدول، لكن لن نتردد في مساعدة من يطلب بكل الاشكال".

 

ويبدو أن أول من قرأ ملامح هذه النقلات الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان الأسبوع الماضي في "النيويورك تايمس"، الذي كان في الرياض لإلقاء محاضرة وسط غضبة شريحة سعودية تراه متحاملاً على السعوديين شعباً وحكومة. بينما البيت كان مفتوحاً ليقرأ تفاصيله ويلتقي ولي ولي العهد وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان الذي اعترف فريدمان صراحة بإمكاناته الكبيرة ولو بتعابير مقتضبة.
ورمى فريدمان ما لمسه على شكل تساؤلات لئلا يدخل في منطقة المدح في مقاله "رسالة من السعودية"، إذ ذكر متسائلاً "لا أعرف. هل سينتج من ذلك دولة سعودية أكثر انفتاحاً أو دولة محافظة ذات فاعلية أكبر؟ لا أعلم. إلا أنه أمر جدير بالمراقبة".

وبعد فريدمان، كتب جون كيلي في "الواشنطن بوست" في 28 من تشرين الثاني (نوفمبر)، مقالاً أبسط ما يوصف بأنه دعوة لفتح باب التبادل الثقافي بين الشعبين السعودي والأميركي مستذكراً تجربة معرض "المملكة بين الأمس واليوم"، الذي نظم في العاصمة واشنطن، قبل 29 عاماً في تموز (يوليو) 1989. وهو مؤشر أن الانتقاد سيكون بالنسبة إلى السعوديين كعدمه فدعونا نفتح باباً آخر "للمصالح".

 

النقلة الأخرى ربما ستكون في تمكين المرأة السعودية واستمرار سياسة دولة الشباب فعلياً وليس شكلياً من غير "بروباغندا" إعلامية، إذ سيكونون حاضرين بثوب عملي مؤثر بعيداً من الجعجعة دون الطحن، لتموت التكهنات بأن المدرسة المحافظة تهيمن على مفاصل الدولة، وسط إيمان رفيع أن الباب مفتوح للكفايات ولا غيرها، وأكبر الأدلة منح حقيبة سيادية كوزارة الخارجية لمواطن.

 

وبين ملفات التغيير يتوقع أن تكون الانتخابات ثقافة أكثر شيوعاً، وربما تشهد الأشهر الثلاثة عشر المقبلة قرارات تاريخية بعين غربية، بينما هي حاجة في قائمة أولويات سعودية داخلية، وسط تفهم بأن التغيير التدريجي هو الحل الأنسب لواحد من أكثر مجتمعات الشرق الأوسط تعقيداً وتداخلاً ثقافياً، تاريخياً وقبلياً.

ووسط الحراك السعودي يأتي على رأس أولويات الإدارة السعودية الجديدة، ملف الدخل الوطني الذي تتعامل معه الحكومة بشفافية بدأ بوقف مضخة الصرف في قنوات كانت غير ضرورية، وأخرى لاستعادة النفس وإعادة رسم السياسة الاقتصادية التي يعكف عليها فريق من الخبراء في الرياض يصلون الليل بالنهار للخروج بخريطة طريق لصناعة قنوات دخل قصيرة وطويلة المدى من غير المساس بحياة المواطنين والبسطاء أو التفكير في ارتفاع أو انخفاض أسعار النفط.

الاقتصاد السعودي القوي والمتماسك والذي يتوقع أن يستقبل رساميل اجنبية كبيرة هذا العام، وسط ارتفاعها داخل السعودية إلى 200 مليار ريال، بينما قفز الناتج المحلي من 320 إلى 750 مليار ريال، والأهم من ذلك الاستقرار السياسي والاجتماعي المصحوب بإحكام أمني أعطى انطباعاً تشجيعياً لدخول السوق لأكثر شركات العالم قوة، وأخيراً وقبل 72 ساعة وقعت هيئة الاستثمار السعودية 15 اتفاقية تجارية دولية.

 

من نيويورك إلى الرياض، أكثر كلمتين سمعتها "المصلحة والثقة"، وسط غياب أميركا عن المشهد فما كان من الروس إلا استغلال الموقف واللعب كما يشاؤون سياسياً. ويتحوّل الدب الروسي إلى مراهق طائش يضرب هنا، ويبتز هناك متنقلاً بين ابتسامة وبحث عن أموال السعوديين، وقمة العشرين والحديث عن السلم العالمي ثم طهران عاصمة الفوضى في شرق الكرة الأرضية.

 

أما الإدارة الأميركية الخائفة صراحة على عدم المجازفة في الأشهر الأخيرة من بقائها خوفاً من التأثير على المرشح الديموقراطي، دون اكتراث بنتائج عبثهم الدولي الذي خلف وضع الشرق الأوسط اليوم. وأوروبا المشغولة باقتصادها واللاجئين السوريين، والخوف من ضرب المتطرفين مرة أخرى غيّر أجندتها ما يوحي بأن لاعبين منها يتوجهون إلى الحرب ذاتها.

 

سلسلة التغيّرات السعودية هل ستكون سلاحاً نافعاً لمواجهة الحرب العالمية المقبلة؟ الجواب: نعم. ولكن هل هذا يكفي؟ باعتقادي وببساطة: لا.

السعودية اليوم تحتاج إلى قرار موجع داخلياً وهو تخفيف الاعتماد على الحكومة والانسلاخ من ثوب الدولة الرعوية تدريجاً. دخول عقليات جديدة من خريجي المؤسسات العلمية والعملية الدولية كأفضل 100 جامعة في العالم خصوصاً الذين خاضوا خبرة العمل الدولي إلى جانب حصد شهادات كالدكتوراه والماجستير من السعوديين في المنظمة التنفيذية أصبح حاجة. وأخيراً، الاستماع إلى الأصوات والأفكار من مناطق ومدن وحتى قرى الأطراف بالشراكة مع مجلس الشورى ضرورة ملحة للدولة المتجددة الباحثة عن آلية أكثر دينامية، حيوية وإبداعاً.

 

 

هادي الفقيه- كاتب وصحافي سعودي- واشنطن