حصاد العيد 55 والمعارضة الموريتانية بين الشيخوخة العملية والمهاترة في الممارسة والسياسية ؟ د / محمد المختار دية الشنقيطي

ثلاثاء, 11/24/2015 - 17:24

إن التطورات العلمية الهائلة في مجال السياسة التي أنجزها الحراك والإبداع البشري تبقى عاجزة عن أن تصل بنا إلى فهم أفضل وإدراك أعمق لطبيعة السياسيين الموريتانيين في ظل سفاهة أحكام العسكر، فلا شك أن أمراض السياسة تتوزع ما بين العوامل الخارجية والداخلية، وعلى خياراتنا في الإدراك والحركة والتفكير، والمعروف علمياً أننا لا نستطيع ايقاف تداعيات الشيخوخة السياسية لأننا لا يمكننا إيقاف الزمن، ولكننا قادرين على تأخير الفعل الذي يفعله الزمن في حراكنا ومساراتنا السياسية، وهذا هو الفرق في السياسة بين العمر الزمني والعمر الفيزيولوجي في السياسة الذي يعبر عن الفترة الزمنية التي قضيتها منذ ولادتك إلى هذه اللحظة، أما العمر الآخر فيعبر عن مقدار الفعل والضرر الذي فعله الزمن، أو فعلته أنت في مساراتك وخياراتك، لهذا من الممكن أن يكون الإنسان في الميلاد الجسمي في الثلاثين من العمر لكن في الخيار والفعل لم يبلغ الحلم، أو تجاوز الشيخوخة وذلك بفعل التغذية والممارسات الخاطئة كما هو حال المعارضة الموريتانية في ظل الأنظمة العسكرية ؟!

في بداية اجتماعات وتنسيق المعارضة الموريتانية إبان انطلاق (الربيع العربي) جئت من لبيا خصيصا للمشاركة في المسيرة الكبرى التي حركتها المعارضة، وبعد نهايتها جمعني لقاء مع بعض المهتمين في منزل الشيخ الداعية سيدي محمد ولد السنهوري، فسألني عن المسيرة والحراك السياسي المصاحب لها فقلت له: أشواق جماهير فاقدة لقيادة اللحظة وردود أفعال سياسيين عاجزين وفاشلين، قد يمتد بعض الوقت، وسيكون مثل"دبوس الاعمي" في كل حركة يفقد قطعة حتى ينتهي ؟!

فقالي ولماذا جئت أنت من عملك للمشاركة فيه وهذا هو تقييمك له فقلت له هذا هو قدرنا في اللحظة ولا بديل في السياسة عنه الآن، وواجب اللحظة يمليه، والفقهاء يقولون:(ما لا يدرك كله لا يترك جله)، وامرؤألقيس يقول لصاحبه في مثل هذه اللحظة: ...وإنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا. والحمداني يقول: وقال أصيحاب الفرار أو الردى         فقلت هما أمران أحلاهما مر

. ولكنني أمضي لما لا يعيبني     وحسبك من أمرين خيرهما الشر؟ .

إن الشيخوخة في السياسة هي انتصار الهدم على البناء، إنها الضعف والتراجع في القدرة على القيام بالوظائف بدءا من الصعيد المجتمعي اكتسابا وتوظيفاً مروراً بالأعضاء والأجهزة، وانتهاء بفقد الدوافع السياسية والجواذب الكسبية للأحزاب والسياسة، تماماً كأحزابنا وسياسيينا المصابين بضعف القلب السياسي وفقدان الأوعية الحزبية وارتفاع ضغط الحاجة السياسية، وتراجع القدرة على الحركة، وتباطؤ رد الفعل، وصعوبة الشفاء من السقوط السياسي المتلاحق في جولات السياسة في ظل أنظمة العسكر للسياسة والساسة؟؟

لاشك ولا ريب أن البلد يعيش أزمة وجود والسياسة منذ نشأته،استفحلت وتاهت في فيافي العجز والفشل والضياع وخاصة منذ الانقلاب العسكري المشؤوم، الذي انقلب على المحاولات الخجولة لبناء الدولة التي وضعها المؤسس الأول ونظام حكمه المرحوم المختار بن داداه، وهي المحاولات التي ولدت ولادة قيصرية، وفي ظروف إقليمية ودولية مفعمة بالتحولات والصراعات والتحديات، في ظلها استطاع الساسة المؤسسون أن يضعوا لبنات لبناء المجتمع، ويصغوا تصورات وأفكار تحدد مقومات ومفهوم بناء الدولية، وإن عجزوا عن صياغتها في برنامج عملي يومي للدولة ومؤسساتها، فجاء انقلاب الهزيمة في حرب الصحراء الغربية، والتيه في فيافي الضياع والقبلية والجهوية والجهل والدكتاتورية، والفساد الإداري والمالي وأخيرا الفئوية والعرقية ؟!

وبدأ المجتمع والدولة وفي ظل الحكم العسكري المشؤوم يواجهون المصير المحتوم: ضياع الهوية، اتساع دائرة الجهل، واستفحال القبلية والجهوية والعرقية مخرجات وثمار الأنظمة العسكرية التي بدأت تبذر بذورها في مجتمع تضيع هويته ومقومات وجوده، ويفقد قياداته التقليدية، ويعجز عن وجود قيادات بديلة بمقاييس الحضارة والمدنية وحاجة المجتمع ؟!

لقد كان وجود المجتمع البدوي قائماً على مقومات قبلية تقاوم مهددات وجوده وتضمن بقاء منظوماته المجتمعية القائمة على قيم البادية: الزعامة القبلية من جهة والزعامة العلمية من جهة ثانية، واحترام مقتضيات التراتبية التي أفرزها صراع الوجود والبقاء في بيئة صيرورة الحياة فيها لا ترحم، وخاصة في حق من لا يخضعون ويحترمون تلك القيم والوظائف التي وفرت للمجتمع مستوى من التوافق والأمن في غياب الدولة ومؤسساتها ؟

فقد كانت للمجتمع قيادات فعلية فاعلة وباذلة ومدافعة عن أتباعها وقيم مجتمعها: قيادات تدافع بالسنان والسلاح في ميدان المعارك عن رعاياها وقيمهم، وقيادات تبذل جاهها ومالها لأفراد المجتمع، وقيادات تبذل علمها وما لها وجاهها للكل ودون تميز، وكان هذا العطاء والبذل هو المعيار للقيادة والزعامة، بل وحتى لمكانة القبيلة التي تمثل أهم مكون من مكونات هذا المجتمع، الذي فرضت عليه الظروف أن يتوافق على هذا النمط من الوجود، والنظام، وما كان يستطيع من لا يملك حظاً كبيراً من تلك القيم والمعاني أن يفكر أو يتقدم للزعامة والقيادة ؟

جاء الانقلاب العسكري المشؤوم بجناحه المدني مشحوناً بالحقد والضغينة على المجتمع ألتقليدي ومنظومته وقيمه، عاملاً ما وسعه الجهل والعمل والتحريض على تحطيم قيمه وزعاماته، ودون أن يقدم النظام العسكري كما هي عادته بديلاً ولو نظرياً، وقد نجح في ذلك وبمساعدة الظروف الصعبة والتحولات القاهرة التي يشهدها المجتمع: الجفاف والفقر، والتحول من الريف إلى المدينة، مع  الافتقار إلى أبسط مقومات الحياة في المدينة التي يصدح فيها معول الهدم العسكري، ورجيع الحضارة الغربية من الأيديولوجيات القومية التي لا تلبي للمجتمع مطلباً واحداً من مطالب الوجود والاجتماع والدولة، وهي دعايات منافية في فكرها وفلسفتها كذلك لخصوصيات المجتمع ونمط حياته .

والحصاد المر للسنين العجاف من حكم العسكر هو: تكسير لقيم المجتمع التقليدي وتحييد قياداته المجتمعية : فلا فتوة ولا زعامة وشجاعة في ميدان المعركة، ولا صاحب مال ينفق ويبذل، ولا عالم يعلم ويصلح وتلتف الناس حوله معلما لهم ومرشداً، ولا قبلة ذات شوكة، تخلق مستوى من مستويات  التوازن السياسي والمجتمعي، ولا دولة لها مؤسسات تقوم بوظائف الصحة والتعليم وباقي الخدمات والوظائف التي تقوم بها الدولة وتبرر وجودها ؟!

ولا قيادات جديدة سياسية وعلمية وفكرية تنتج برامج وحلول لمشاكل الدولة والمجتمع، فلا سياسي معروف له نظرية في حل مشاكل المجتمع والدولة، ولا عالم يتوافد الناس عليه لطلب العلم، ولا مفكر أو أستاذ أنتج دراسات علمية تعالج قضية من قضايا المجتمع والدولة، في العلم والساسة والاقتصاد والثقافة، ولا صاحب مال ينفق منه على الناس ذات اليمين وذات الشمال ؟!

فالزعامة السياسة في البلد الآن سواء في الموالاة أو في المعارضة هي خليط من العجز والفشل وغياب الرؤية الوطنية والبرامج العملية، وهي المولود الطبيعي  والنتاج الوراثي لأنظمة العسكر المتعاقبة المبتلى بها هذا البلد منذ 1978م

ومن هنا نفهم لماذا لمن نجد نخبة سياسية تخطط وتبني وتقود وتغير، وتجتمع أو تفترق على برامج وإنجازات وأفكار وتصورات قابلة للانجاز والتحقق، ويمكن أن تكون معايير على أساسها يوالي من يوالي ويعارض من يعارض، أخي المواطن أنا وأنت، فهل نعرف بالتحديد لماذا يكون زيد في الموالاة ؟ وعمر في المعارضة ؟ وما هي برنامج الأحزاب السياسية وما الفرق في برامج تلك الأحزاب السياسية، وما منهج وبرنامج الزعيم السياسي الفلاني في حل مشاكل المجتمع وتطور بنائه ومؤسساته ؟!!

كل المتصدرين لقيادة العمل السياسي عندنا اختبروا ومحصوا فلا واحد  بينهم يمتلك بريقا سياسيا، أوبرنا مجا عمليا وسياسيا متماسكاً يقدم أملاً جذابا يدفع المواطن للعمل والنضال لتحقيقيه، فالجميع بالنسبة للنظام العسكري يصدق عليه مثلنا الشعبي:"أجران ول فكرشه لدناي" فما كانت المعارضة عندنا في يوم من الأيام إلا نتاج طبيعي وخادم مخلص وبالتناوب للنظام العسكري ومخرجة له من أزماته التي قد تكون خانقة ومهددة لوجوده: خذ مثلاً موقف التحالف الشعبي من مرشح العسكر سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، وموقف تكتل القوى الديمقراطية من انقلاب ولد عبد العزيز على الديمقراطية والرئيس سيدي، وموقف تواصل من انتخابات الخداع والزور وإعطائه المشروعية لها، والمواقف المشابهة وعددها بعدد سنوات وجود عمل تلك الأحزاب ؟!

أما الموقف من هيمنة وحكم العسكر ونظامه فهو محل توافق وتواطئ، فقد لخص الأستاذ محمد جميل منصور موقف حزب تواصل من ذلك قبل يومين في برنامج تلفزيوني في رده على سؤال للزميل أحمد ولد وديعه جوابا وإن كان مميعا إلا أنه يفيد (بأنهم لا يرفضون نظام الجيش وإن عارضوا بعض أفراده)، وهو نفس جواب التكتل على لسان الأستاذ أحمد ولد داداه يوم انقلاب محمد ولد عبد العزيز على الرئيس المنتخب الذي جاء به ؟!

وهي نفس المواقف التي يعبر عنها دائما وأبداً وبالممارسة إتحاد قوى التقدم، والتحالف الشعبي، وكل الشخصيات والأحزاب المنضوية هنا وهناك؟

أما الحوار  بالمعنى السياسي فكما قال النابغة الغلاوي: فقد طارت به في الجو عنقا مغربي، أما بمنطق الحكم فهو يعني: إن القائد الأعلى لا يخطئ وإن أخطأ فالرجوع إلى المادة الأولى من القانون التي تقول: إن القائد لا يخطئ، فعلى هذا المنطق يكون الحوار، وعلى غير ذلك فلا حوار ولا مصلحة للأوطان، ومنصب القادة منصب واحد، فعلام يكون الحوار إذن، والقيادة أولا وأخيرا تمتلك جهاز التحكم، ولايملك الآخر ما يبطل فعله وعمله، فمتى يكون الحوار بين السلطة والمعارضة يوم يبيض الغراب ؟

وقبل ذلك وإلى حين تحقيقه يظل المواطن العادي يشكوا استغلاله، ويبحث عن استقلاله وموارد بلده وصحته وتعليمه، بل وسبل معاشه، ومقومات كرامته، وسياسيين القادرين على  تحقيق تطلعاته وآماله ولو بعد مرور 55 سنة من استقلاله وتكرار مآسيه وحتى صور وأشكال الاحتفال بأعياد استغلاله لا استقلاله، وغياب سياسته والساسة القادرين على قيادته ؟! وللعيد الخامس والخمسين نقول نحن  : عيد بأية حال عدت ياعيد    بما مضى أم لأمر فيك تجديد