ما قبل وبعد الربيع العربي العلماء والمحراب وصناعة القادة مواقف خالدة بين الفقهاء والسلاطين ؟! (ح5)

جمعة, 11/13/2015 - 18:48

الحلقة  الخامسة: عمرو بن عبيد  التابعي من نماذج ثورات العلماء الهداة على من طغى وتجبر من الولاة ؟!.

د محمد المختار دية الشنقيطي .

هناك أسئلة تطرح نفسها على العلماء والفقهاء والدعاة، وهي: ما قيمة علم وعبادة يجعلان صاحبهما محايداً، أو مشلول الفكر واليد والحركة في الحرب الدائرة بين الكفر والائيمان،  بين الحق والباطل بين العدل والجور، بين الضحية المسلم والقاتل المعتدي اليهودي الصليبي الشيوعي، وهل يصح شرعاً عقد حلف بين الكفار الغالبين والمسلمين المغلوبين في مواجهة مسلمين منحرفين أو بغاة أو مستقيمين مجاهدين؟، وهل شرعاً وفعلاً يمكن ويصح تشكيل جبهة لنشر السلام والخير والعدل من النصارى واليهود الغالبين والمسلمين المهزومين المغلوبين ؟!!

الله جل جلاله يهدينا إلى معالم طريق الحق وسبيل المؤمنين في هذه الدنيا ونكدها وظلمات وظلامات أهلها بقوله:{ ذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء }، فهم الذين يهدون للحق والخير وبه يعدلون.

وما من شك أن المغرور بالقليل من العلم يرسل أحكامه مبيسرة مضللة، لا وزن لها ولا معول عليها... ومصيبة حياتنا وآفة تديننا هي: تقدم وتسلط صنف من الناس ليس له زاد من المعرفة الفقهية، إلا قراءات على الهامش للأسفار الضخام التي كتبها العلماء الراسخون ودون أن يعرف ذلك المغرور مدلولها ولا تأويلا لمقاصدها ولا قواعد استنباطها ولا ضوابط الاحتجاج بها ولها.، والله يكشف للخلائق سوءات ذلك الصنف المشؤوم من المتفيهقين المتصدرين الملأ للبيان والفتوى يقول الحق جل في علاه في شأنهم وشأن أمثالهم:{ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله، له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق}.

 ويقول:{ ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوبه الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزءاً} وقد قل عنهم:{ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا}.

والحق أن العلم والأخلاق هي التي صنعت وتصنع على مر الدهور ألوف الرجال من حملة القيم وهداة الشعوب ومشيدي الحضارات، وأن اللوم  الحقيقي متجه في الغالب إلى أصحاب الديانات الذين شوهوا رسالات الله وضيعوا القيم، إما بتحريف الكلم عن مواضعه، وإما بالأعمال الشائنة التي تزور العلماء أو تحرف وتضع من أقدار الربانيين من العلماء، وما يحملونه من علم ودين وتدين .

والله جل في علاه ينذر ويحذر ويقول في شأن تلك الأصناف الأولى ومن شايعهم وسلك منهجهم:{إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم}.

وقال:{ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم...}

إن الإسلام يرسم الطريق للعباد المجتهدين غير طريق تحريف الغاليين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين أو الرهبنة والاعتزال، طريقاً يجشمهم السير في الرمضاء وتحت الصخور وصليل السيوف وعذاب السجون وأزيز الطائرات وهدير المدافع ودوي الصواريخ والقنابل، وخشية الله في السر والعلن بالنسبة للعلماء الربانيين والفقهاء الراسخين المتمسكين بسنة خير المرسلين تعني فيما تعني الأمن والراحة والسكينة كما تعني الانغمار في الحياة ومعالجة ظلمها وباطلها بالحق، ومقاومة طواغيتها بالقوة وبذل المال والدم في سبيل ذلك، وخشية الله وتقواه هي التي صيرت العلماء فرساناً لا رهباناً، قال تعالى:{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله..}  والله يخاطب نبيه – صلى الله عليه وسلم- والخطاب لنا معه:{ فسيكيفكهم الله وهو السميع العليم } ويخاطبنا وعداً وبشرى:{ إن الله يدافع عن الذين ءامنوا} ويقول القائد القدوة والشفيع الأسوة- صلى الله عليه وسلم: - حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيَّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ 
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ رَبِّي قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا أَوْقَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا .."

والله جل في علاء يقول:{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقاً}.

فالإسلام يرفض الترهب الذي يدع الظلم والإثم يسرحون ويمرحون من غير نكير، فالخشية والتقوى في ميزان القرآن يحولان الحياة ومعالجة كروبها وهمومها معروفا ومحو المنكر جهادا مبرور الغدوٌ والرواح، ولهذا كره الظلمة وأهل الشر الإسلام لهذه الخصائص والقيم والمبادئ، ولهذا قال –صلى الله عليه وسلم- لمن أراد التعبد بالاعتزال والابتعاد عن الناس:" لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله تعالى أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً.. ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة.. اغزوا في سبيل الله.. من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الحنة..".

وعن أبي هريرة قال: قيل للنبي – صلى الله عليه وسلم: ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال:" لا تستطيعونه ! قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً.. كل ذلك يقول: لا تستطيعونه ! وقال في الثالثة: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله. وهذا هو ما يحرك ويغري الشباب المجاهدين في سبيل الله ويدفعهم للاعتصام به غاية ووسيلة ومهما كانت المغريات والمغويات التي يقدمها لهم البشر .

وحدث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالى أن أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج.. وقال آخر: ما أبالى أن أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام.. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم.. فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وهو يوم الجمعة- ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل:{ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله.. لا يستوون عند الله.. والله لا يهد القوم الظالمين. الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله.. وأولئك هم الفائزون}.

إن العلماء الربانيين هم دعائم الرشد في كل أمة إذا قاموا بالحق والعدل والنصح رست أركان الفضيلة والحضارة والعمران، وإذا ذهبوا ذهبت ريحها، وهذا ما قرره الرسول – صلى الله عليه وسلم- إذ قال:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".

والعلماء الذين يطفئون الحرائق ويحرسون قيم الدين ويعصمون الجماعات من الزيغ والزلل، هم أولئك الذين أماتوا أهواءهم، وقاموا بحق الله في أنفسهم وفيما حولهم. انتفعوا بالإسلام ونفع الآخرين به، واتصلت حياة هذا الدين بهم كما تتصل حياة الشجرة بما تحمل من بذور فيها طبيعة الإنتاج والنماء، فهي إن ولت أعقبت بعدها ما يٌنْبتُ مثلها أو أشد..

إن الرجولة لا تحقد والأتقياء فوق الأهواء وجموع الشباب المصطفة للنصرة الدين ومقاومة الباطل ومقارعة الظالمين لا يخرجهم من الإسلام وحق النصرة فيه والنصح خطأ هذا الفرد أو تلك المجموعة ولا يعطي خطأهم وانحرافهم مشروعية لمد اليد لأعداء الدين والتحالف مع الظالمين ضدهم،كما يفعل فقهاء السلاطين{ أتواصوا به بل هم قوم طاغون}. والقائد القدوة والأسوة الشفيع محمد – صلى الله عليه وسلم-يقول:" لا تعين الشيطان على أخيكم"، وما ذا ينفعك أيها الفقيه المفتون أن تنهال حمم الموت من الكافرين وسياط العذاب من الظالمين على إخوان لك في الدين والدم خالفوك في الأساليب والمناهج  أو انحرفت بهم فهومهم عن سواء السبيل بسبب ضعف التعليم وشدة الظلم الواقع عليهم وعلى أمتهم وكثرة المتخاذلين في صفوف من يفترض فيهم أنهم قادتهم والمدافعين عن دينهم وأمتهم؟. إن الإمامة في الدين والدنيا اصطفاء إلاهي:{ وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}.

وفي سبيل تلك القيم والمعاني وتطبقاً لها وتجسداً في الحياة تنافس المتنافسون من العلماء والصالحين وحتى من عامة المسلمين. قال تعالى:{ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.

وعمرو بن عبيد  التابعي والعالم الواعظ, والداعية المثالي الخامل الذكر المجهول القدر عند طلاب الدنيا, والمجادل المفحم صاحب اللسان الذي يفلق الصخر, ومن خاف الله أخاف الله منه كل شيء من ذلك الطراز؟!

يقول عنه شيخه: إمام التابعين, العالم الزاهد الوعظ, الذي كان يقال فيه:هذا الذي يشبه في دله وهمته سمت الأنبياء: الحسن البصري, يقول في تلمذه:(عمرو ما عمرو!؟ رجل كأن الملائكة أدبته, وكأن الأنبياء ربته, إن قام بأمر قعد به , وأن قعد لأمر قام به , وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له , وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له, ما رأيت ظاهرا أشبه بباطن منه, ولا باطنا أشبه بظاهر منه .

و كان غريمه وأحد خلفاء أيامه (ولي أمر المسلمين؟!)  الخليفة  أبو جعفر المنصور من الهبة والخشية بمنزلة توحي الرعب وتبعث الفزع فيمن يخالطه ويشاركه الحكم حتى من أمرائه ووزرائه وقواده !

وهو في ملكه وسلطانه غير سعيد في نفسه , وذلك لما رأى الرجل في حياته من الأحداث المتناقضة المتضاربة منذ صباه, الأمر الذي أورثه قلقا دائما, وحيرة لا تتوقف, ويأسا لا ينقطع, وكان يظن أن ذلك قد يزول من حياته بزوال خصيمته : الدولة الأموية المستبدة , التي جاهدها وجا لدها متنقلا بين شتى الأقاصي النائية ,مقتحما لأعظم المخاطر, داعيا , ومبشرا: بفجر جديد تشرق فيه شمس الحرية والعدالة على العالم الإسلامي كله , وتغيرت الدنيا في أيامه  وتحقق الحلم المشتهى للمنصور, فأصبح خليفة للمسلمين يأمر فيطاع ! ولكن ذلك لم يجلب له السعادة المفقودة في حياته ! وقد قيل للفاروق عمر– رضي الله عنه-: حكمت فعدلت فأمنت فنمت. وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي عنان في آخر اجتماع للأمم المتحدة بشأن السلم ومكافحة الإرهاب وكأنه يرد على من قال في ذات الاجتماع: إن الأمن قبل العدل وقبل الحرية: أنه لا أمن بدون العدل والتنمية ولا تنمية ولا عدل بدون حرية، والحكمة  ضالة المؤمن  وقد تأخذ من غير الحكيم .

إن المنصور لينظر في واقع حياته ونظامه فيجد نفسه مضطرا إلى أن ينقلب على أصدقاء الأمس  وحتى من بني عمومته وصانعي مجده , ورافعي أركان خلافته , فيسيل دماءهم التي استعصت على خصومه على شفرات سيفه , فتتساقط رقابهم واحدة تلو الأخرى بضربات أنانية من يد كانوا يقاتلون دونها !!

ولم يقصر ذلك على أصدقائه وأعوانه , ممن لا تربطه بهم أواصر الدم والنسب , بل عمم ذلك ووزعه على أبناء عمومته الذين اتخذهم خصوما أشد خطرا , وأفزع أثرا من الأباعد الغرباء , فاغتال الأرواح وسفك الدماء في مسعى منه لحماية الملك وتوطيد أركانه !!

ولم يوزع ذلك على أبناء العمومة الأباعد فقط , بل شمل به : بني العباس أنفسهم , ثم أقصى ولي عهده بتدبير ظالم ليمهد الطريق لابنه , ثم يبطش بأنصاره وخلصائه فلا يفلت من يده منهم أحد ويجعل قاعدة العمل في حكمه تقوم على الظنون في طوايا وزرائه ونيات قواده فيأكل في الغد صديق الأمس , فأحدث في الرعية من الارتياب والقلق ما جعل الوزير المطاع يترقب يومه في حذر وإشفاق , وكان يسبر أغوار خلصائه ومعارفه: محللا , ومعللا فيجدهم مثله : طلاب جاه ونفوذ, وعشاق أموال , وقصور, وليس من بينهم من يخلص له النصيحة بنفس صادقة , وسريرة طاهرة , ويرى في وجوههم عيون الثعالب يديرونها ذات اليمين وذات الشمال, وهو لا يزال مضطرا إلى مصانعة بعضهم والتغاضي عن البعض  الآخر, ليكونوا أعوان شدته ونصراء كريهته !!

وبدأ يستعيد تاريخه المليء بالمئاسى والحروب , ويفكر في بعض من تعرف عليهم , ويبحث فيهم عن ذوى النفوس الخيرة , ليجعل منهم مستشارين يقدمون له المشورة والنصح الصادق  !

فتذكر فجأة صديقا  له  قديم هو: العالم العابد الزاهد(عمرو بن عبيد) فتذكر فيه المثل الأعلى للصراحة المخلصة والنزاهة الخالصة من المأرب والهوى,والرجولة المترفعة عن الرغبات والميول, فأسرع في البعث إليه ليستدعيه مكرما مبجلا ! وهو يأمل أن يجد بعض الراحة المفقودة معه,حين يجلس مع تلك النفس الملائكية والتي لا تفكر في غير نوازع الحق والخير والجمال... فليعتبر فقهاء البلاد والسلطان الذين يقعون فمي مصائد الشيطان والحكام الظلمة الفاسدين المستبدين ممن قال الله فيهم:{ ودوا لو تدهن فيدهنون}.؟!

ولقد كان (عمرو بن عبيد) عالم البصرة  ورأس متكلميها, وإن اختلف معه البعض في آرائه الاعتزالية, ومسلكه القدري, ورأيه في العدل والمعصية إلا أن الجمهور قائل بطهارة نفسه, ونزاهة ضميره, ومتانة خلقه وكثرة علمه وصدقه في تدينه والتزامه بالحق وصراحته فيه .

وقد رزق من سلامة القول وفصاحة العبارة ما ملك أزمة العامة والخاصة, وليس لخصومه في جميع هذه النواحي سبيل إلى المجابهة والعناد, جاء إليه ذات مرة أحد تلامذته مسرعا وقال: يا أبا عثمان, إني لأرحمك مما يقول الناس فيك, فقال:  يا ابن أخي, أسمعتني أقول فيهم شيئا ؟  قال: لا, قال: فإياهم فارحم ! رد جميل حكيم كفيل بالإفصاح عن رحابة شخصيته الداخلية المليئة بالتسامح والعفة والنقاء ! فأين فقهاء السلطان من خصوم الدعاة والشعوب والثورات من هذه الخصال والقيم والمناقب ؟

نعم لقد فكر العالم المجاهد الزاهد (عمر بن عبيد) ببصيرته نافذة وحكمته الممحصة فيتردد وارتياب من دعوة المنصور إذ بلغته, وأخذ يسأل نفسه: ماذا يروم منى هذا الرجل, وقد اعتزلت قصره وبلده, وما فكرت في زيارته منذ ولي أمور الناس, ومع أنه كان من أصدقائي الأقربين أيام شبابه في زمن الحكم الأموي, وكان ينزل إلى مسكني فيعرف زوجتي وأولادي وأقربائي, ويرى بنفسه ما آتى وما أدع من الأمور, وما أحب وما أكره, وما أقبله وما لا أقبله !!

لقد مضت السنون الطويلة دون أن أخطر على باله في مضمار عظمته المرهوبة, وسلطانه العريض !

ويعلم الله أنى أفر من هؤلاء المتسلطين فرار الصحيح من الأجرب, وأعرف أن في التقرب إليهم مشاركة إيجابية فيما يقترفون من المآ ثم, إن لم يجابهوا بالنصيحة الحاسمة والمعارضة الصريحة , كما أمر الإسلام, ثم ماذا أصنع الآن ؟ أأرفض الدعوة أم أجيبها ؟

هذا ما تردد في نفس العالم الورع عمرو بن عبيد ! غير أنه حزم أمره وقطع  الشك باليقين, وصمم على زيارة  الخليفة وولي الأمر؟! أبي  جعفر المنصور, لا ليلاطفه ويخادعه , بل ليقول له كلمة الحق فيما يأتي من الأشياء, وهو بعد كما يعلم المنصور لا يخشى في الله لو مة لائم ! بل يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ... وهو يستحضر ويتذكر قول القائد القدوة والشفيع الأسوة المعلم رسول الرحمة محمد –صلى الله عليه وسلم-"سيد الشهداء حمزة ورجل عمد إلى سلطان جائر فأمره فنهاه فقتله"، قال تعالى:{ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} ومن ميثاق النبوة على الداخلين في الإسلام والعلماء بالأولى:" أن نقول الحق ولا نخشى في الله لومت لائم" وقال:- صلى الله عليه وسلم-" لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه إلى الحق أطراً أو ليوشكن أن يعمكم الله بعقاب من عنده فتدعونه فلا يستجاب لكم".

نعم لقد فكر أبو عثمان في أثناء طريقه فيما سيواجه به أبا  جعفر المنصورمن أشياء فهو في ميزانه النزيه قد حاد عن طريق الخلافة الراشدة فيما قام به من تجبر وإرهاب, إذ جعل كل همه أن يثبت قوائم عرشه , فتم ذلك على  أشلاء الضحايا, ومع رنات الثكالى والنادبات, ولم يعتبر بما أصاب الدولة الأموية من انهيار, حين سلك مسلكها , بل لم يعتبر بما حكاه القرآن عن: إرم , وعاد, وفرعون ذي الأوتاد, ممن طغوا في البلاد, فلابد أن يواجه بذلك الظلم والجور ليرتدع عن غيه, ولن يهتم عمرو بعاقبة, فحسبه أن أدى أمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصرة للمظلوم وبيان الحق للظالم وأعوانه في دنياه .

ثم إن الخليفة من ناحية ثانية قد نقض العهد بنقضه بيعة ولي عهده, وأجبره على التنازل عن حقه لولده المهدي ! وجعل ولاية العهد عن طريق الوراثة وهذا ما خالف أحكام الدين ومثله وهو مرفوض في منطق العالم المجاهد الصادع بالحق  عمرو, وبالقدر الذي هو مرفوض فيه في قواعد الإسلام  الصحيح وقيمه النبيلة القائمة أصلا على الشورى والوفاء بالعهد والعدل, وما قام به الحاكم هو أمر مفسد شرعا ومضر مصلحة ضررا بالغا بالدولة وذلك بتقديم الفسل الكسول ليحتل مكان الحازم الإداري الصبور!   فليواجه العالم عمرو الخليفة أبو جعفر المنصور  بذلك  ليكون على بصيرة مما تحت قدمه من بركان يكاد أن ينفجر مخلفا وراءه الخراب والدمار ؟.

أما حاشيته  المتملقة , فلابد أن ينالها نصيب من اللوم والتقريع, فقد كانت عون الباطل على رسالته, وما برحت تميل مع السلطان حيث يميل لتضمن الجاه الزائف وتختلس في نطاق الرياسة ما تصل إليه الأيدي من قصور وضياع وأموال ! وتلك ثالثة الأثافي في منطق العالم الصابر الزاهد  الصادع بالحق, وفاء بعهد الله وميثاقه على العلماء في بيان الحق ومجابهة الباطل  !

وجاءت ساعة اللقاء, وما إن علم أبو جعفر بوصول عمرو حتى أسرع في استدعائه وتخطى به مقدما إياه على مئات الوجهاء من الأعيان والقواد والعلماء, ممن قعدوا يلتمسون الإذن, وينتظرون على أحر من الجمر أن يشملهم الخليفة برعايته, فسرع في المثول, وقد علم الخليفة من سيلقى من العلماء المخلصين بقية السلف الصالح ! ممن يخشون الله ولا يريدون إلا وجه الله والدار الآخرة !

فوطن المنصور نفسه على الاستكانة والامتثال , وحسبه أن يسمع صوت الحق النزيه بريئا من الأغراض والشبهات, وأدركته حصافته, فرأى أن ينتقل من حجرة الخلافة ذات الأرائك المذهبة, والنمارق المزركشة, إلى حجرة متواضعة, فرشت بالحصير, كيلا يعلن الرجل احتجاجه قبل السلام !!

وقد هش الخليفة للقاء صاحبه وعانقه وقبله, ثم رفع إليه عينه وهو يقول في انكسار: عظني يا أبا عثمان ! ولقد كان الخلفاء والأمراء الذين واجههم أولئك العلماء، بل وخرجوا عليهم لهم نصيب من العلم وحظ من الإخبات والكسب للإسلام وبراءة كاملة من العمالة لأعداء الإسلام والناهبين لثروات بلاده ؟

نظر عمرو إلى الخليفة نظرة تنطق بجميع ما يضمر من سخط  وإنكار, ثم جللته سكينة وضيئة جعلت وجهه طاقة من نور, واندفع يقرأ بعد البسملة قول الله تعالى :{ ألم تر كيف فعل ربك بعاد , إرم ذات العباد , التي لم يخلق مثلها في البلاد , وثمود الذين جابوا الصخر بالواد , وفرعون ذي الأوتاد , الذين طغوا في البلاد , فأكثروا فيها الفساد , فصب عليهم ربك سوط  عذاب , إن ربك لبالمرصاد }, وكرر الآية الأخيرة في تحد جرئ عنيد, ففهم أمير المؤمنين ما يعني أبو عثمان, وملكته رعشة مترنحة, فتساقطت من عينه دموع  الخشية والندم !! .

وواصل الرجل في موعظته وقال: يا أمير المؤمنين: إن الله أعطاك الدنيا  بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها, واعلم أن هذا الأمر الذي صار إليك إنما كان في يد من كان قبلك ثم أفضى إليك, وكذلك يخرج منك إلى من هو بعدك , وإني أحذرك ليلة  تتمخض  صبيحتها  عن يوم القيامة يا أمير المؤمنين !! يا لله إنها فتوة الإسلام وعنفوان الحق فأين أنتم من هذا يا علماء الوسطية والاعتدال والترشيد من حكام اليوم وأفعالهم وحمم الجحيم التي تصب اليوم من الجو والبر والبحر على المستضعفين من الرجال والنساء والولدان من المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبلا وذلك من طرف أعداء الإسلام وأعوانهم من الحكام المسلمين الفاسدين الظالمين؟! فيا فقهاء الاعتلال العربي:{ ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً}.

وكان كبير حاشية الخليفة  المنصور (سليمان بن مجالد) حاضرا يسمع ويرى, فاستفظع ما حصل للخليفة من حزن واضطراب, وصاح بأبي عثمان: رفقا بأمير المؤمنين, فقد أتعبته منذ اليوم !

فرفع العالم الواعظ  الداعية عمرو رأسه وقال له: من أنت ؟  فقال أبو جعفر: أولا تعرفه يا أبا عثمان ؟ فقال: لا , وما أبالى ألا أعرفه ! فأجاب المنصور: هذا أخوك سليمان بن مجالد , فضحك عمرو متهكما وقال: هذا أخو الشيطان, ويلك يا ابن مجالد ! خزنت نصيحتك عن أمير  المؤمنين , ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد نصيحته !

يا أمير المؤمنين: إن هؤلاء اتخذوك سلما لشهواتهم, فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك يحلب, فاتق الله فإنك ميت وحدك, ومحاسب وحدك, ومبعوث وحدك, ولن يغنى عنك هؤلاء من ربك شيئا !! { ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون}.

وقد دب الخوف والوجل في نفوس الحاضرين من رجال الحاشية من صراحة أبي عثمان ! وعلموا أن الرجل قد هتك بصائرهم المدخولة  بما قال, وعقدت رهبة الحق ألسنتهم, فتدافعوا يتلاحظون بنظرات ضارعة منكسرة , وتطلعوا إلى الخليفة في حذر, فسمعوه يقول : يا أبا عثمان, أعنى بأصحابك فأستعين بهم دون هؤلاء .

فرد الرجل في  قوة: يا أمير المؤمنين أظهر الحق يتبعك أهله!

يا لها من لحظة  وموقف, لقد فرج الرجل همه , وذكر رأيه صريحا في جبروت الحاكم وطغيان الحاشية , وبقي أن يعلن رأيه في المهدي ولى العهد الجديد !!

فنظر العالم المجاهد الداعية من بين الحاضرين إلى شاب مترف عليه  دلائل  الإمارة  والجاه , وتوقع باستشفافه الملهم أن يكون الشاب ولي العهد , فرفع رأسه ليسأل المنصور: من هذا الفتى يا أبا جعفر ؟

فرد الخليفة: هذا ابني محمد, وهو المهدي, ولي عهد المؤمنين .

فانتهزها فرصة سانحة وقال: والله لقد سميته اسما ما استحقه بعمل, وألبسته لبوسا ما هو من لبوس الأبرار, ومهدت به أمرا أمتع ما يكون به أشغل ما تكون عنه !

تضايق الخليفة من صراحة العالم المجاهد الداعية, وأراد أن يتخلص من لقائه, فسأله في تصنع: هل من حاجة ؟ فقال : نعم يا أمير المؤمنين, فتعجل أبو جعفر يسأل: وما هي ؟  فقال أبو عثمان: ألا تبعث إلي حتى آتيك !  قال:  إذن لا نلتقي . قال: يا أمير المؤمنين عن حاجتي سألتني , ونهض قائما , فودعه الخليفة, ومكث حائرا لا يدرى ما يصنع, فكأنه تقيد في مجلسه, ثم جعل يفكر في منطق هذا البطل العظيم, وكيف صدقه القول حين كذب عليه الناس, وتذكر–بكل مرارة – فاقته وحرمانه وكيف ضن معها بكرامته أن يأخذ درهما أو دينارا, هما بعض حقه في بيت المال, وتدافعت في مخيلة الخليفة صور المتملقين والمادحين, ممن يتلمسون الكسب الكثير وراء نصيحة خادعة, أو مشورة موهومة !

وكم شاهد في مدى حياته مئات من هؤلاء يتوجهون إليه وبريق الذهب  يخطف  أبصارهم , فما يزالون يسألون ويتملقون, لا يفترون ولا يستغنون !!

لقد كشف العالم الواعظ بصراحته وصدقه دواخل هؤلاء جميعا, وأرى الخليفة نفسه فريسة يتطلع إليها الصائدون بحبائل مستترة, تدب خفية إلى خزائنه ووظائفه, فتفوح منها رائحة الأثرة  والاستكلاب على حقوق الناس وأموالهم المغتصبة !! غنائم دعاة الأمن والأمان لليهود والصليبيين والشيوعيين من فقهاء السلطان ووعاظ المنهزمين المتخاذلين من ذوى العاهات الفكرية والضياع الحضاري .

ولقد ظلت تلك المعاني في موعظة عمرو تجيش في صدر الخليفة المنصور وتجبره على التعبير عنها في نغم منظوم, فيجهده وهو يغني ويترنم بهذه الشطرات البليغة, والمعبرة عن تأثير الحق :

كلكم طالب صيد .. كلكم يمشي رويداً .. غير عمرو بن عبيد .

إنه العالم الذي رنح أوتار الخليفة بالصدق في القول والنصيحة البليغة  حتى دفعه إلى مديحه بشطرات من الشعر كانت في حقيقتها متنفسا سريعا لمشاعره المتلاطمة ! ذلكم هو الداعية الواعظ والعالم المجاهد أبو عثمان عمرو بن عبيد !!  والذي أحيا الله به قيماً إسلامية هال عليها علماء السلطان ركاماً من الفزع والهلع والطمع وسقيم الفهم وبؤس التفيهق مطايا الظالمين من المستبدين وسماسرة أنظمة القهر للشعوب المسلمة والوكالة بل والعمالة للظهير الصهيوني الصليبي الشيوعي المتوافق والمتحالف على اضطهاد الشعوب المسلمة ونهب ثرواتها، المصائب التي يتغافل عنها بعض من يفترض فيهم أنهم قادة الأمة وحراس عقيدتها وقيمها، ويصرف البعض الآخر أنظار الشعوب عنها باسم ترشيد التدين وضبطه بمفاهيم الوسطية والاعتدال وقطع وشائج الصلات مع المتشددين والمتطرفين الذين شوهوا الدين وألبوا على المسلمين، وأثاروا حفيظة الكافرين وخرجوا عن طاعة الحكام الظلمة المستبدين،بدل أن يصلحوا ويقوموا الانحراف والاعوجاج عند المتشددين، وقد قال الله في مثل هؤلاء وأولئك:{ فاستخف قومه فأطاعوه} والذي أطاعوه هو الذي نهب الموارد واحتكر المنافع والأرزاق وجعل الأمة شيع وطوائف يستضعف بعضها، ويقتل الأبناء ويستحي البنات ثم يخاطبهم بقوله{ ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}. وهذا هو ما يهديه لنا اليوم اليهود والصليبين والشيوعيين وعملائهم ووعاظهم من رشاد ووسطية واعتدال،{والله غالب على أمره}.

لقد نعى القرآن على قوم أغلقوا عقولهم وعطلوا فهومهم على الجمود على رأي فلم  يفهموا سواه ولم يفكروا فيما عداه. زاعمين أن الخير فيه وحده فقال فيهم جل في علاه:{ قل: هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً...؟}، فهم لم يعذروا بحسن النية، بعد ما جمدت عقولهم على تحريف الغاليين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، والتشبث بالدجل والخرافات، وأغلقوا آذانهم دون الناصحين المخلصين .

ومن مصائب الكثير من الجماعات الإسلامية وبعض المنتسبين للعلم عندنا أن الله ابتلاهم بشباب لم يهديهم علم ولم تصقلهم تجربة يقفون على رؤوسهم بعيون يتطاير منها الشرر ويريدون التحرش بكل من يريد لهم نصحاً أو يدلي بين أيديهم بشهادة الحق، ولقد بلوت الكثير من هؤلاء في ميادين مختلفة .

إن محكمات الكتاب وهاديات السنن وناضجات الاجتهاد والاستنباط كلها تعلمنا أن المسلم الصادق هو الذي يعرف الرجال بالحق. أما أولئك الذين يعرفون الحق بالرجال ويثقون في أي كلام يلقى إليهم لأنه صادر عن فلان أو علان، فهم أبعد الناس من فهم الإسلام، بل هم آخر من يقدم للإسلام خيراً أو يحرز له نصراً..

وليس من البر ولا من خدمة الإسلام أن يحمل العمل الإسلامي وزر شخصيات واهنة مربكة تستر ضعفها بالاستبداد، ونكوصها بالمكر السيئ؟  ولحساب من هذه الخدمات المجانية للاستبداد والظلم وأعداء الإسلام من تلك الشخصيات التي تحولت من الليونة مع الظلم والاستبداد واليهود والنصارى إلى البطش والتنكيل بالأفراد والجماعات الإسلامية التي تخالفها الرأي والمنهج، وتبعت ذلك بحرب شعواء لا هوادة فيها من المفتريات التي تتلمس للأبرياء والمخطئين على حد سواء العيوب وتتربص بهم الدوائر وتخطيط وتكيد للوقيعة بهم  في كل ناد ومحفل وهي تحسب ذلك ترشيداً واعتدالا ووسطية سبحاك هذا بهتان وفجور عظيم؟!والحق في علاه  يقول:{ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} .

 ويقول:{ ذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء } .