في تجزئة «سايكس بيكو» ومفاعيلها /عبد الإله بلقزيز.. الشناقطة جزء من المغرب

أربعاء, 10/21/2015 - 08:11

أياً يكن دور العوامل الداخلية، والقابليات المحلية، في التمكين لفعل التفكيك الخارجي، الذي أجرته السياسات الاستعمارية على قسم كبير من البلاد العربية، عقب الحرب العالمية الأولى، لن يسع الباحث المدقق أن يتجاهل حقيقة الأمر الحاسم لذلك الفعل الخارجي في إنجاز التقسيم والتجزئة. ومبنى هذا الاعتقاد على واقع أن الهشاشة الداخلية للبنى الاجتماعية، وضعف النسيج الاندماجي فيها، كان يمكنهما أن يستمرا عائقين رئيسيين في وجه أي عملية توحيد ممكنة للبلاد العربية، أو كان يمكنهما- على الأقل - أن ينتصبا كتيار معاند لذلك التوحيد، بحيث يعسران عليه فرص النجاح، لكنهما ما كانا ليولدا عملية تجزئة وتقسيم بالتلقاء (أو من تلقاء ذاتهما) وبالتالي، ما كان لمثل تلك العملية أن تشهد النور إلا بفعل فاعل خارجي: على نحو ما حصل فعلاً. وآي ذلك أن المناطق العربية التي لم تتعرض للجراحة الكولونيالية، واستمرت محكومة بمنطق العصبيات المنقسمة أو المناطق المنفصلة عن بعضها، لم تنته بها الحال إلى التجزئة، بل بالعكس انتهت إلى التوحد. إذا تركنا جانباً البلدان التي لم تخضع لسيطرة السلطنة العثمانية (في المغرب واليمن وبعض الجزيرة العربية)، ومصر التي نجح واليها، محمد علي باشا، في فصلها عن الباب العالي، قبل احتلالها من الإنكليز في ثمانينات القرن التاسع عشر، فإن مناطق من السيطرة العثمانية خرجت من سلطان الآستانة قبل الحرب (العالمية الأولى)، ومنها بلدان المغرب العربي الثلاثة: الجزائر (1830)، وتونس (1883) وليبيا (1911)، ولم يكن ما بقي تحت سيادتها من بلدان المشرق العربي (سوريا والعراق) محصناً بما يكفي لمنع سقوطه. كان العثمانيون يخسرون الحرب بالتدريج، ويفقدون «ممتلكاتهم» في البلقان، في الوقت الذي يزداد فيه النفوذان البريطاني والفرنسي في العراق، وفلسطين، وشرق الأردن، وسوريا، وجبل لبنان، من طريق الادعاء الاستعماري بحماية «الأقليات». وحين كانت القوات العثمانية تنحدر، كانت فرنسا وبريطانيا تبرمان معاهدة سرية- عرفت باسم موقعيها الدبلوماسيين سايكس وبيكو- سرعان ما كشف عنها البلاشفة حين وصلوا إلى السلطة واستولوا على الأرشيفات الرسمية. في الوقت عينه وعدت بريطانيا بمنح «وطن قومي» لليهود في فلسطين، بعد انتهاء الحرب، فيما عرف- منذ ذلك الحين- باسم «وعد بلفور» (نوفمبر 1917). والنتيجة ما يعلمه الناس جميعاً. لم يتأذ المشرق العربي وحده من هذه الجراحة الكولونيالية التقسيمية، بل نزلت أحكامها على المغرب (الأقصى) أيضاً؛ إذ بعد تقاسم أراضيه بين احتلالين: فرنسي (في الوسط والغرب والجنوب وإقليم شنقيط) وإسباني (في الشمال وفي مناطق الصحراء الجنوبية الغربية)، جلت قوات الاحتلال - في منتصف الخمسينات - من الأراضي المغربية التي قامت عليها دولة الاستقلال، لكنها ظلت جاثمة على بلاد شنقيط (موريتانيا) وعلى الصحراء المغربية (إقليمي الساقية الحمراء ووادي الذهب). غير أن الأسوأ من استمرار احتلال هذه المناطق السعي في تهيؤ شروط انفصالها عن الوطن تحت ذريعة استقلال مناطق لم تكن خاضعة لسيادة «المخزن» (الدولة المركزية) قبل احتلالها. نجح المخطط التقسيمي الفرنسي بقيام دولة موريتانيا، في بداية الستينات، لكن مخطط الجنرال فرانكو في منح «الشعب الصحراوي» حق تقرير المصير فشل بصمود المغاربة دولةً وشعباً. وهذا، من أسف شديد، فصل من فصول التجزئة والوحدة، تماماً كما يتجاهلون مقدمات فصل السودان عن مصر في السياسة الاستعمارية البريطانية! لا يمكن النظر إلى هذا الفصل التأسيسي من التجزئة الكولونيالية، الذي دشنه «اتفاق سايكس - بيكو» ونظائره الأخرى في إفريقيا العربية، بوصفه مشروعاً لتفكيك كيان الدولة العثمانية حصراً؛ لأن في هذا التعريف له ابتساراً واختزالاً يمنع من رؤية أبعاده الجيو-ستراتيجية، فضلاً عن تجاهله أهدافه الخاصة بالجماعة القومية العربية بعد ارتفاع سلطان السيطرة العثمانية عليها. إذا كان من هدف أوروبي لتفكيك الدولة العثمانية - وهو من غير شك وجد - فإن تجسيده المادي تبدى في وراثة «أملاكها» العربية من طريق الاحتلال العسكري - مثلما حصل في الجزائر وتونس وليبيا- وفرض السيطرة المباشرة على هذه البلدان المنزوعة من الإمبراطورية. لكن هذا الفصل الابتدائي انتهى قبل نشوب الحرب (العالمية) الأولى. أما الجديد في المشروع الاستعماري فأصبح الانتقال من احتلال - يفكك الإمبراطورية-إلى تجزئة تفكك البلاد العربية نفسها، من طريق رسم حدود وأوطان صغيرة لا يكون ثمة من سبيل إلى جمع أمشاجها. وهكذا، فالتجزئة السايكسبيكوية - ونظيراتها - لا تستهدف الدولة العثمانية بمقدار ما تستهدف الأمة العربية التي أرهصت الفكرة القومية فيها، منذ بداية القرن العشرين، وخاصة منذ «المؤتمر العربي الأول (1913)، بإمكانيات تاريخية واعدة. والبريطانيون يعرفون، أكثر من غيرهم، المزاج القومي العربي الجديد، الذي ولد في المنطقة - منذ صعود «حزب الاتحاد والترقي» إلى السلطة في تركيا واندفاعة النزعة الطورانية - وهم أنفسهم من أوهم القيادات العربية بدعم مطلبهم في الدولة العربية المستقلة إن هم ساعدوا الحلفاء في الحرب على تركيا؛ «ومراسلات مكماهون-الحسين» خير دليل على ذلك! من النافل القول إن التجزئة السايكسبيكوية تغيت قطع الطريق على أي مطمح للعرب في التوحيد القومي. لكنها تطلعت إلى ذلك ضمن رؤية استراتيجية مصالحية تراءى لها ذلك القطع أقصر سبيل إلى صون مصالحها الاستراتيجية في المنطقة من معارضة قوة محلية (عربية) ذات بال وشوكة. وبيان ذلك أن هذه المنطقة كانت - وحتى قبل حفر قناة السويس - عقدة التجارة الدولية مع الشرق وممرها المائي والبري (وهي زادت أهمية منذ نهاية الثلاثينات مع اكتشاف النفط في جزيرة العرب)؛ وهي تتحكم في أهم المضائق والخلجان (مضيق جبل طارق، قناة السويس، باب المندب، مضيق هرمز) تقع على ثلاثة بحار وبين محيطين كبيرين (الأطلسي والهندي). وليس أفضل من تقسيم البلاد الواقعة على هذا الموقع الجيوستراتيجي الحيوي إلى دويلات صغيرة، لا حول لها ولا قوة، لتأمين عدم إلحاق الضرر بالمصالح الاستعمارية في المنطقة. ولكن المقص الذي قص الخرائط، في العام 1916، وأعمل فيها عبثاً، وزرع في الحدود ما زرع من ألغام وقنابل موقوتة، لم يتوقف عن العمل بعد إخراجه صيغة «سايكس-بيكو»، بل هو عينه المقص الذي اشتغل لتصميم صيغة جامعة الدول العربية على النحو الذي تنتظم فيه الدويلات السايكسبيكوية في إطار جامع تحت سقف السياسات الكولونيالية، ولكن - في الوقت عينه - من دون أن يكون في وسع ذلك الإطار الجامع أن يولد ديناميات للتوحيد الأفقي لكياناته التكوينية. هل كان التمكين للمشروع الصهيوني الوليد بعيداً من الهندسة الكولونيالية السايكسبيكوية للتقسيم؟ لم يكن بعيداً، بل كان في القلب: على الأقل بالنسبة إلى الوزير البريطاني وحكومته؛ آي ذلك أن وعد بلفور كان، حينها، في طور المداولات والتحضير. وإذا كان هو قد تغيا منح وطن قومي لليهود في فلسطين (الشيء الذي ترجمه التمكين البريطاني للهجرة اليهودية إليها)، فإن هذا الوطن القومي «يستحيل إمكانه إن نجح العرب في تحقيق وحدتهم السياسية، وهو- بالعكس - سيقيم إقامة مريحة، في قلب بلادهم، إن جزئت بلادهم إلى دويلات صغيرة. هذا، فيما نزعم، كان في صلب حسابات عملية التجزئة تلك. وهي لم تلحظ مصلحة المشروع الصهيوني - وحصته من الكعكة- إلا بما هو رديف للمشروع الاستعماري وشريك صغير يتولى أدوار الوكالة في منطقة كانت وما زالت، وستبقى، مبعث قلق وأرق لسياسات الدول الكبرى. لقد آن أوان إعادة التفكير في تجزئة «سايكس- بيكو» من هذا المدخل .

 

الخليج