رغم شساعة الفرق بين واقعنا المعاش وطموحنا المؤمل اتجاه صحافتنا الناشئة ، إلا أن المتتبع لمسيرتها الغنية بالنماذج والمنعرجات- رغم قصرها- سيدرك أن هناك تطورا قد حصل وفرقا كبيرا بين لحظات النشأة، وواقعها اليوم.
صحيح أنه في البداية لم يتصد لهذه المهنة الشاقة والممتعة في نفس الوقت، سوى أصحاب الكفاءات، أومن هم علي مستوى تعليمي معتبر ويحملون هما وطنيا على الأقل- قد يتفاوت من شخص لآخر- رغم شح الوسائل وغياب المهنية.
أما اليوم، فالوسائل أفضل والتجربة أعمق وعدد المؤسسات قد فاق جميع التقديرات وحتى القدرات الذاتية لأصحابها وللبلد، لذا تاه الناس عند الاختيار، بفعل كثرة عناوينها وتلويناتها وما ينشر ويبث، دون أن يخضع لضوابط في أغلب الأحيان.
طفرة صاحبتها ندرة في الكفاءات وغياب للمهنية، وحضور قوي لمنتحلي كل الصفات، وواكبتها كذلك سلبية جمهور لا يكلف نفسه عناء التدقيق فيما يتلقف وما ينشر، يساوي بين المهنة الصحفية والشائعة ويري فيهما أداة للتسلية وللنيل من هذا الشخص أو تلك الجهة.
والنتيجة، هي: صحافة تأكل بثديها، منهكة بفعل الاستغلال البشع من قبل فئة تريد منها كل شيء، دون أن تقدم لها أي شيء.. صحافة يتكدس فيها جيش من العوالق والكسالى، لا تحترم بالمجمل الملكية الفكرية، تبدو أحيانا عبثية بلا وجهة وبلا غاية مفهومة، تري غالبيتها في إثارة الفتنة حرية للتعبير وفي صب الزيت علي النار، دليلا علي السبق والتميز ومجرد وسيلة لجذب، ومواكبة لتطلعات أكبر جمهور ممكن.
ينضاف إلي ذلك تعدد التجمعات ذات الطابع المصلحي- وليس المهني- وتسلق أسماء للمشهد الإعلامي، يرون لأنفسهم الفضل علي الغير ولا يراعون إلا ولا ذمة في المهنة ولا الوطن ولا السكينة العامة، يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، يحرصون في أحسن الأحوال علي ترسيخ نهج في الصحافة يحاكي أسلوب الوجبات السريعة.
++++++
فهذا - بإيجاز مخل- هو واقع المهنة الصحفية اليوم(الخصوصية والمكتوبة) وتلك صورة جزئية عن واقعها السابق.. صحافة تتلمس الطريق وتسعي جزئيا إلي أن تجد لنفسها موقعا مقبولا ضمن المشهد الوطني، دون أن تمتلك الزاد المادي أو المعنوي، لذا وجدت نفسها أمام وضع قلق:
- فهل تهرب منه وتعود إلي نقطة الصفر وعندها ستضيع تجربة غنية سلكت خلالها الصحافة الخصوصية الوليدة طرقا شتي وجربت عبر محطاتها المختلفة ما لم تختبره نظيرتها في أي بلد"خارج حدودنا"؟
- أم أن عليها أن تستمر في شق طريقها- رغم المطبات والمعوقات الماثلة- علها تستطيع أن تتجاوز محاذير وعقبات المرحلة الراهنة، وتتعامل مع وضعها الراهن، بوصفه ضريبة النشأة وضرورات المسار.. وعندها قد تصل مستقبلا إلي مستوى مقبول من المهنية والمسؤولية؟
لا أعتقد أنه في مسح الطاولة منفعة تذكر لصالح مسيرتنا الصحفية، كما أن الوقوف ضمن نفس المنعرج، هو عمل تنقصه الحكمة والتبصر ويوحي بجدب في الفكر وانكفاء عن التفاعل مع ديناميكية الحياة وضرورة الاستجابة لتطلعات جمهور من حقه أن يحصل على الأصلح- رغم أنه قد لا يكون مدركا لكنهه أو مستعدا للعمل من أجل أن تصبح المهنة الصحفية خادمة لمصالحه ومنسجمة مع تطلعاته.
فلدي الصحافة الموريتانية اليوم حصيلة، خلطت عملا صالحا وآخر سيئا، يمكن لها أن تؤسس عليها من أجل إنضاج وترسيخ الجوانب المهنية في أدائها اليومي، إن هي حظيت بنخبة تنتشلها من الضياع وسلطة تدرك خطورة إفسادها وضرر انحرافها عن رسالتها، عند ما تتحول إلي أداة للتسول، تسترضي وتخدم كل من يدفع أكثر، سواء أكان داخليا أم خارجيا.. وبانتهاء هذه الممارسات أو الحد منها علي الأقل، ستقوم المهنة الصحفية بالتخلص ذاتيا من الكثير من العوالق والممارسات المصاحبة لظاهرة التسول والارتزاق - وهو الأسلوب السائد اليوم للأسف- لتسترجع جزءا من مصداقيتها واحترامها لذاتها.
فقط ظاهرة التجنيد لصالح الأجهزة الأمنية المحلية، ستبقي عصية علي الجميع، لأسباب ذا تية وأخري موضوعية- رغم تشديد ميثاق أخلاقيات المهنة الصحفية في موريتانيا على رفضها، بل إنه يوجب طرد مقترفها- فعند ما تنهض المهنة الصحفية من كبوتها، سنجد أن ضحايا هذا التجنيد سيبذلون جهدا مضاعفا، حتى لا ينكشف أمرهم.. وعندها ستتكيف عملية الاستقطاب الداخلي مع التحول الجديد وسيعمل كل طرف من أجل أن يظهر بمظهر المهني الحريص علي المصلحة الوطنية.. وهي خطوة ستقرب الصحافة من المهنية أكثر وستنقلها إلي مستوى نوعي يختلف عن المرحلة الحالية، المتسمة بالفلتان وغياب أي اهتمام بمحاذير الظرفية وطبيعة الوجهة.
وقبل الوصول إلي هذه المرحلة البرزخية، فليس أمام الصحافة الموريتانية، سوى التعايش مع حصيلة المسار المهني وما أفرزته تجربتها الراهنة، التي تتضمن المقبول والضروري والمرحلي وذلك علي النحو التالي:
1- لجنة أخلاقيات الصحافة:
لقد ظهرت هذه اللجنة للوجود مع بدايات هذا القرن، بهدف مواجهة موجة السقوط الكبري، التي أصبح الصحفي خلالها مجرد متسول وجامع للصدقات والإكراميات، والتي انطلقت من عقالها في أكتوبر 1998 بعد أن فكرت الداخلية وقدرت، من أجل تجاوز معضلة المصادرة بمنح سيل من التراخيص لكل من هب ودب، وهو ما مثل هدية مسمومة، تكفلت بالقضاء علي أي بريق أو مصداقية لمهنة الصحافة المكتوبة في هذا البلد على الأمد القريب علي الأقل.. هذه اللجنة التي لا أعتقد أن الحاجة إليها قد انتفت بعد.. فلا زالت جيوب "التسول" موجودة، ونسبة المهنية في الأداء شحيحة.
2- لجنة البطاقة الصحفية:
وهي خطوة في الاتجاه الصحيح- رغم أن هذه البطاقة لا تجلب اليوم منفعة ولا تكشف أي ضرر، فهي مجرد بطاقة تحمل إسم وصورة حاملها، وبها توقيع وزير الإتصال لا أكثر ولا أقل. ورغم ذلك، فهي إنجاز يجب أن يؤسس عليه وقابل لأن يتم تحسينه مستقبلا.
3- دار الصحافة:
رغم أن هذه الدار، لا زالت مجرد فكرة جنينية، إلا أنه من واجب الحريصين علي المهنة الصحفية أن يوصلوا ليلهم بنهارهم من أجل تحقيقها وترسيخ وجودها، بوصفها خيمة جامعة للصحافة وأداة توحيد في وجه سيل الروابط والنقابات التي قد تتجاوز مستقبلا عدد منتسبي المهنة الصحفية أنفسهم.
4- صندوق دعم الصحافة:
وهو ما يمثل انقلابا جذريا في حياة المهنة الصحفية في هذه الربوع، عندما أصبح لديها مصدرا للدخل، تناله بقوة القانون من خزينة الدولة، دون تسول ولا منة من أحد، قد يلغي مستقبلا تسكع البعض بين بيوت المنتفعين وينهي المرابطة ليلا ونهارا أمامها خلال المناسبات السياسية- علي طريقة المتسولين.
كما أنه- رغم محدودية المبالغ المرصودة له وشحها المخل وعدم تلبيتها للتكاليف المرهقة- فهو يمثل خطوة مرحلية متقدمة، لحل معضلة التفاوت الكبير بين من لا يجيد "التسول" وبين القلة ذات الحظوة عند الدوائر الرسمية والجهات النافذة، كما أنه قد يساهم في تعزيز مأسسة ومهنية العناوين الصحفية، التي ظلت غالبيتها عاجزة عن تجاوز الطابع الشخصي وحبيسة للوجود المهزوز.
ورغم أن هذا الصندوق تسيره لجنة تضم ممثلين عن القطاعات الحكومية المعنية والهيئات ذات الصلة، إلا أنه يجب أن لا يغيب عن الأذهان أن هذه اللجنة تدار عمليا وفقا لقواعد سطرت بمشاركة فعالة وبمباركة من طرف ممثلي مختلف الطيف الصحفي، وهو ما يفرض علي أهل المهنة أن يتجاوزوا صراعاتهم وخلافاتهم خلال عملية التصنيف والترتيب، حتى لا ينشر غسيلهم ويظهروا بالمظهر المسيء الذي تابع الجميع فصوله مؤخر، عندما سعي كل طرف منهم إلي إقصاء زميله في المهنة، ليستأثر هو وجماعته ب " الكعكة" دون البقية، الشيء الذي فجر موجة من الخصومات والمواجهات، طال رذاذها الجميع.
ورغم أن هذه الانتقادات، قد اتسمت بالطابع الفقاعي والضجيج المقصود، إلا أنها أبانت عن خلفية إقصائية دفينة داخل العائلة الصحفية، وبينت أنها هي المسئولة عن التشويش الذي حصل، وأنها هي مكمن الداء الذي أساء إلي المهنة واللجنة معا، وعكست بوضوح صراع الأجنحة داخل الحقل الصحفي وعرته أمام الجميع.
فعلي الصحفيين أن لا يميعوا عمل هذه اللجنة أو يسلبوها مصداقية، هي أحوج ما تكون إليها- ما داموا راغبين في الانفتاح علي أطراف أخري لزيادة تمويلها .. فلا زالت نقطة الصفر قريبة والتشكيك في أهلية الصحفيين لإدارة مرفق مشترك يدر منافع مادية، هو حديث الجميع.. فرفقا بها، عساها أن تكون مقدمة لمأسسة العناوين الصحفية وأداة لانتشال المهنة من "التسول" والإقتتات علي موائد، لم يعد بها متسع ل"صحفي" يأتي من غير استئذان، ليس له من سلاح، سوي ماء وجهه المراق في اليوم أكثر من مرة. 5- المنظمات المهنية
هذه أيضا تشكل مكسبا للمهنة، إلا أنه يستحيل أن تكون فاعلة في ظل التمزق الحالي، ما لم تنصهر جميعها في إطار موحد،أو ثنائي، يخدم المهنة ويحتضن الخلافات، وعندها فقط ستصبح هذه المنظمات ذات فعالية وتأثير، فبوحدتها تحتم أن لا يمرر أي قرار يمس المهنة الصحفية، دون مباركتها ودعمها.
أما واقع التمزق الحالي، فهو مريح للسلطة مهين للمهنة مضيع للصالح العام ولواجب الصحافة، اتجاه المجموعة الوطنية.. ولا يمكن الخروج منه إلا من خلال بدائل أنجع، تتمتع بأكبر إجماع داخل الحقل الصحفي.
++++
رغم هذا الواقع المربك والذي يمثل جزءا من الصورة ووجها واحدا من وجوه أزمة مجتمع ومسار دولة، هو نتاج عملي لممارسات سياسية، ظلت تتصف بالارتجالية والآنية وتبتعد كليا عن الصالح العام، خدمة لقلة متنفذة ولأصحاب مصالح ضيقة، فليس أمام الصحافة الوطنية، سوي الدخول في نقاش جاد، يعزز وحدتها ويرفع من مستوى مهنيتها، ما دامت تمثل حاجة وطنية ومصدر رزق وأداة للتأثير وتصفية الحسابات في نفس الوقت.
فأمام انعدام إصلاح شامل، يمس مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بالبلد.. فليس أمام الحريصين علي المهنة الصحفية، سوى الرفق بمؤسساتها الوليدة وتلك الداعمة، والعمل من أجل توحيد طاقاتها والتخفيف من موجة التشكيك والتخوين والاتهام المباشر وغير المباشر، حتي لا نجد أنفسنا جميعا أمام وضع قد تبخرت فيه إنجازات متحققة في الميدان، بغيابها، ستتيه وتختفي معها- لا قدر الله- آمالنا في التأسيس لمهنة، ينتظر منها أن تقدم الكثير لبلد يعج بالهموم والمعضلات، بعيدا عن تحكم مصالحنا الضيقة ونزواتنا اللا محدودة.
فعلي الجادين داخل مهنة الصحافة أن يحافظوا علي ما تحقق- رغم محدوديته- وأن يعملوا علي تغيير ما بأنفسهم أولا، حتي لا تحفر الصورة النمطية الطفيلية الحالية في ذاكرة الجميع، والناتجة عن رقص "الصحفيين"علي جثة المهنة الصحفية وصراخهم وعويلهم، كلما وزع دعم أو ضنت جهة ما بدعمها لصالح هذا العنوان الصحفي أو ذاك.. صورة نمطية فرسانها أشخاص يرون لأنفسهم الفضل علي الغير، كثيرون عند الطمع ويختفون لحظة دفع الثمن.
أما الجانب المرئي والمسموع ضمن المشهد الحالي، فقد تكون له محطته المقبله- إن شاء الله- وجانبه من النقد والتثمين.. وتلك سنة الحياة وهذا هو واجبنا جميعا معشر المنتمين إلي مهنة الصحافة.
محمد المختار ولد محمدفال
كاتب صحفي