بـدايـة القـصـة:
في منزل مقابل لثانوية البنات من الناحية الشمالية، يقطنه السيد مولاي اسليمان (وهو رجل من مدينة النعمه يعمل بشركة الخطوط الجوية الموريتانية)، يستخدمه طالب في الثانوية الوطنية عمره 19 سنة يدعى جدو ولد السالك، وخلال ما يسمح به وقت الداخلية من خروج، وصحبة زملاء له هم: سيد أحمد ولد ابنيجاره، ومحمد يحظيه ولد ابريد الليل وممد ولد أحمد وآخرون، ولدت فكرة الانقلاب على نظام المختار ولد داداه في هذا المنزل سنة 1963،
وهي نفس السنة التي ذكر أحمد الوافي أنه أيضا خاطبه فيها جدو حول نفس الموضوع (كانت بين عائلتيهما وبينهما روابط خاصة، فقد كانا ينتميان إلى قرية "نواودار" بمقاطعة النعمه) قائلا: يا أحمد، اذهب أنت إلى مصر وادرس الاقتصاد، أما أنا فإني ذاهب إلى فرنسا السنة المقبلة، لأدرس فنون الحرب، وبعد التخرج نعودا لنعمل انقلابا على المختار ولد داداه انتقاما للشعب الموريتاني من الاستعمار، حقيقة يؤكد محمد يحظيه ولد ابريد اليل أنها كانت وراء انخراط جدو في الجيش، بغية خروج البلاد- في نظره- من دائرة الاستعمار وإنجاز الاستقلال الحقيقي وهو الخيار الذي قال محمد يحظيه ولد ابريد اليل أنهم كانوا قبل التخطيط لانقلاب العاشر من يوليو كانوا يفكرون في شن حرب عصابات لتحقيقه، بغية تحرير المنطقة من أنظمتها التي كانوا يرون أنها عميلة، وخاصة في موريتانيا والمغرب، هذا المغرب الذي قال محمد يحظيه أنهم كانو يرونه معاد لهم، بوصفه بلدا يحكمه نظام موال للإستعمار ويضطهد شعبه وقال إنهم رأوا في شن البوليزاريوا للحرب فرصة للإلتحاق بها، بغية تحرير المنطقة من تلك الأنظمة، لكنهم- كما يقول- اصطدموا برؤية قاصرة وضيقة كانت لدي البوليزاريو.
ويروي الاستاذ محمد يحظيه أنهم كانوا يرون في الجزائر آنذاك بلدا، سيكون ظهيرا لهم في مشروع حرب العصابات هذا، وهو ما أكده موقفه الداعم للبوليزاريو.. ويقول بأنه قد التحقت فعلا مجموعة من الموريتانيين بالبوليساريو، بدافع نفس الخلفية وانطلاقا من نفس الرؤية، لكنهم نتيجة لعدم معرفة البوليساريو المسبقة بهم وعدم وجود أي اتصال مسبق بينهما، شكت البوليزاريو في أمرهم ولم تثق بهم وظنت أنهم قد يكونوا عملاء للنظام الموريتاني، فاعتقلتهم ولم تطلق سراحهم إلا مع السجناء الموريتانيين سنة 1980م، وكان من بينهم شخصان عضوان في حزب الصواب الآن.
ويؤكد أ. محمد يحظيه أن خطتهم البديلة في حال ما إذا فشل الانقلاب، كانت تقضي بالاندماج التام مع البوليزاريو، مصحوبين بقواتهم التي كانت تأتمر بإمرتهم للقيام بحرب عصابات، مكرسين لخيارهم المبدئي في تحرير المنطقة من أعوان الاستعمار، معولين علي الدعم الجزائري ومن طرف الرئيس هواري بومدين تحديدا.
وفي السنة الموالية: (1964)، سافر الشابان(جدو وأحمد) كل وفق ما رسم له، ونفس الشيء بالنسبة لزملاء الدراسة والتوجه القومي في الثانوية الوطنية، الذين لا زالوا يتذكرون اليوم بعض جوانب النقاشات التي كانت تجري في منزل مولاي اسليمان والتي تمحورت حول مؤتمر ألاك 1958 باعتباره مجرد مؤامرة قام بها الرجعيون والاستعماريون مثل: السيد "فيزي"، والسيد "كامبورسي"، والكابتين "بيلي".
وخلال إحدى الليالي المقمرة من شهر أغسطس 1977 –وهو موسم خريف- خرج السادة جدو ولد السالك وسيد أحمد ولد ابنيجاره وأحمد الوافي في سيارة من نوع 504، للمحافظ المساعد للبنك المركزي المعين لتوه السيد سيد أحمد ولد ابنيجاره، متوجهين إلى خيام "أهل حمداهي" شرق العاصمة، حيث يوجد السيد "لمرابط ولد حمداهي"، الذي تربطه صداقة قوية بسيدي أحمد ولد ابنيجاره، أيام كان طالبا في ساحل العاج والآخر تاجرا هناك.
إلا أنهم ضلوا الطريق، ورغم ذلك لم ينزعجوا مما حصل –كما يروي الأستاذ أحمد الوافي- فأوقفوا سيارتهم يتحسسون الصوت، فبينما هم كذلك إذ همس الأستاذ الوافي من مقعده الخلفي بإماءة وهو يدخل رأسه بين المقعدين قائلا: أتذكر أن أحد الاستراتيجيين قال: "إن النصر هو نقطة الالتقاء ما بين الإرادة والفرصة"، وأعتقد أن الفرصة اليوم متاحة لنا من أجل أن نقوم بعملية انتقام من النظام الاستعماري، الذي فرض علينا، وفي نفس الوقت نوقف هذه الحرب المدمرة.
فالفرصة متاحة لنا لنعمل انقلابا عسكريا، ما رأيكم في أن نقوم بانقلاب عسكري؟ فالتفت إليه سيد أحمد ولد ابنيجاره وهو في غاية الانزعاج وقام بنزع نظارتيه وهو يقول لأحمد: ماذا تقول يا شاب؟ عندها قهقه جدو ولد السالك ونزل من السيارة وهو مستغرق في الضحك، وخاطب سيد أحمد قائلا: ألا تدري أنني أنا وأحمد قد اتفقنا من قبل على أن يذهب هو إلى مصر ليدرس الاقتصاد، وأذهب أنا لفرنسا لدراسة فنون الحرب، وبعدها نعودا إلى البلاد، لكي نعمل معا انقلابا عسكريا؟. عندها عاد سيد أحمد إلى حالته الطبيعية ونزل الجميع وجلسوا على ربوة مجاورة في "تنويش"، حيث كان الجو شاعريا، وكانوا جد مطمئنين إلى أنهم سيهتدون إلى الخيم التي يبحثون عنها، فتحولت الجلسة –حسب الأستاذ الوافي- إلى خلوة لنقاش موضوع الانقلاب، الذي سبق أن فاتح فيه جدو سيد أحمد، ولربما أشخاصا آخرين.
ويروي أحمد الوافي أنهما سألاه: ما رأيك؟ فأجابهم بأن نقطة البداية، يجب أن تنطلق من تقسيم العمل، لذا أقترح أن يكون جدو هو المعني بالمؤسسة العسكرية من حيث الاتصال والتعبئة، أما أنت يا سيدي أحمد فأنت مسؤولا عن القيادة العامة وخاصة منها الجانب المدني. وبالنسبة لي أنا (أحمد) فسأكون مسؤولا عن العلاقات الخارجية.
ثم تساءلنا عمن يجب الاتصال به؟ فأجاب سيد أحمد ولد ابنيجاره: نتصل بإخوتنا، وفهمنا أنه يعني محمد يحظيه وممد ولد أحمد، ثم تطرقوا إلى موضوع الاتصال بالجماعات السياسية الأخرى، مثل الحركة الوطنية الديمقراطية وحركة الميثاقيين والناصريين والإسلاميين. ثم شرعوا في تصنيف الضباط حيث تم ذلك على النحو التالي:
1- مجموعة مضادة، يجب الحذر منها، مثل الشيخ ولد بيده - وأحمد سالم ولد سيدي - وأحمد ولد بوسيف - والعقيد عبد القادر ولد ابه ولد عبد القادر "كادير".
2- مجموعة إيجابية وهي: المصطفى ولد محمد السالك - ومولاي ولد بوخريص - ومحمد خونا ولد هيداله – وأحمدو ولد عبد الله. عندها تكفل جدو ولد السالك بالاتصال بهؤلاء وتعبئتهم، بمساعدة سيد أحمد ولد ابنيجاره.
هذه الجلسة يرى الأستاذ أحمد الوافي أنها هي التي تقرر خلالها القيام بعمل انقلاب عسكري، بشكل فعلي وجاد ووفقا لعملية تقسيم الأدوار السابقة.. وبعدها، تم الاتصال بممد ولد أحمد ومحمد يحظيه ولد ابريد الليل، اللذين انخرطا فورا في العمل.
أما الشخصية الوحيدة التي توقفوا عندها وتساءلوا هل ستقبل أم لا؟ فهو: الضابط معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع، لذا كثف جدو وسيد أحمد ولد ابنيجاره اتصالاتهما به والتحق بهما لاحقا محمد خونا ولد هيداله، حيث حاوره الثلاثة من أجل أن ينضم إلى المجموعة، لكنه رفض والتزم بالمقابل لجدو بأنه لن يفشي سرهم.
وبما أن موضوع القوات المغربية كان موضوعا مقلقا بالنسبة لهم كانوا خلال جلسات الإقناع مع معاوية، يحاولون من خلاله معرفة حقيقة وجودها، بوصفه مديرا للعمليات القتالية، الشيء الذي خوله مرافقة الرئيس المختار، كلما ذهب إلى المغرب، ليطلب مددا جديدا، وجعله ذلك على علم بكل التفاصيل.
وكان كلما عاد من المغرب يطلب من جدو الإسراع في التنفيذ، ويخبره بأنه يعمل على عرقلة نقل القوات المغربية من ازويرات إلى مدينة أطار ومنها إلى اكجوجت وتكرر الإنذار، حيث أخبر معاوية جدو في الأخير بأنهم إذا لم يسرعوا في التنفيذ، فإن تقدم القوات المغربية، سيجعلهم عاجزين عن تنفيذ عملية الانقلاب.
ذلك أنهم كانوا ينظرون إلي تلك القوات علي أنها معادية لهم، لتحالف المغرب مع نظام المختار، بالإضافة إلي أنها قد تكون –في نظرهم- لها أهداف تتجاوز تحالفها مع النظام ومصالحه الآنية.
واستمر تهييء الانقلاب، عبر مسارات متعددة، تمثلت في ما يمكن تسميته بالنواة الصلبة والأساسية والمكونة من مدنيين وعسكريين، يمثل الشق العسكري منها خمسة ضباط، هم: جدو ولد السالك- المصطفى ولد محمد السالك- محمد خونا ولد هيداله- مولاي ولد بوخريص- أحمدو ولد عبد الله.
أما الجانب المدني فيتألف أيضا من خمسة أشخاص، ويتزعمهم: سيد أحمد ولد ابنيجاره، وبعضوية محمد يحظيه ولد ابريد الليل وأحمد الوافي وممد ولد أحمد، وانضم إليهم- بعد فترة تقرب من الأسبوع- محمد المختار ولد الزامل، وكان جدو ولد السالك ينضم إلى جلساتهم من حين لآخر.. وهذه المجموعة، هي التي كانت تمثل الجهة التي تتولي التخطيط والعمل الميداني وقد يكون ذلك لانشغال العسكريين الآخرين بالحرب وتباعد أماكن تواجدهم مبررا لذلك.
أما المسار الآخر فكانت تتحرك ضمنه مجموعة من الشخصيات التقليدية، من أهمها: شيخنا ولد محمد لقظف، وبحام ولد محمد لقظف، وأحمد بن أعمر، والحضرامي ولد خطري، وانضم إليهم في وقت متأخر، السادة با ممدو صمبولي، وعبد القادر كمرا، بفضل جهود شيخنا ولد محمد الاقظف ومن بينهم كذلك يحي ولد منكوس، الذي استمر في عضويته معهم- رغم تعيينه واليا على لبراكنه والذي كان ينسق معه، هو: بحام ولد محمد لقظف، لانه إداري مثله.
ويروي السيد أحمد الوافي ذكرياته عن هذه المرحلة قائلا: إن الاتصال بشيخنا كان بمنزله(شيخنا) في توجونين وتم عن طريقه(أحمد)، وأنه بمجرد إخباره بالامر، تهلل وجهه فرحا وقبل علي الفور المشاركة دون تردد وقال إنه كان أهم قناة لإقناع أحمدو ولد عبد الله، الذي لم يكن يثق في جدو ولد السالك، ويراه مندفعا أكثر من اللازم.
ويؤكد الأستاذ أحمد الوافي أن اختيار شيخنا كان لعدة عوامل منها معارضته الشديدة لنظام المختار رغم أنه رئيس أرباب العمل، وعضو في المكتب السياسي لحزب الشعب بالوظيفة- هذا المكتب السياسي الذي يري محمد يحظيه أن دوره كان توجيهيا وليس جوهريا.
ورغم كون والد شيخنا وجده استشهدا وهما يقاومان الفرنسيين، إلا أنه رغم ذلك كان وجوده مطمئنا لفرنسا وهذه إحدي عوامل الاتصال به- حسب أحمد الوافي.
وبعدها تم الاتصال بأحمدو ولد عبد الله في منزل شيخنا في توجنين، حيث قبل الانخراط في العملية وبذا حصلت الجماعة علي بغيتها تلك.
فبالإضافة إلى هذه الشخصيات التقليدية، كانت هناك ثلاث شخصيات من النواة الصلبة، كانت تشترك معهم أحيانا في نقاشاتهم وهم: سيد أحمد ولد ابنيجاره، ومحمد يحظيه ولد ابريد الليل، وممد ولد أحمد.
واستمرت اللجان في عملها، فاللجنة العامة (المدنية) تجتمع في منزل سيد أحمد ولد ابنيجاره، أما العسكرية فكانت تجتمع في منزل أحمد الوافي (وهو منزل يملكه المرحوم همّام كانت تؤجره له اسنيم أو ساميا).
ويروي محمد يحظيه أن المجموعة العسكرية قد اجتمعت مرة في منزله، لكن ذلك الاجتماع لم يكن موفقا، بفعل الاشخاص الموجودين في المنزل ونتيجة لحرصهم علي أن يكون مظهر اجتماعهم عادي.
وقد واصل جدو ولد السالك تعبئته وتحركه داخل المؤسسة العسكرية وتميز نشاطه بالشمولية، وهو من انفرد بالاتصال بالضباط الصغار، حيث استطاع إقناع عناصر من الضباط الشباب ونظمهم فرادى أوضمن مجموعات متعددة، مثل: (سيد أحمد ولد ابيليل، وابريكه ولد امبارك، ومحمد محمود ولد الديه، الذي كانت تربطه بجدو علاقات خاصة، والداه ولد الحسين، ومولاي هاشم ومجموعة من الضباط القوميين).
وتمحورت النقاشات داخل لجنة الشخصيات التقليدية حول المواضيع السياسية والتطورات المستجدة، وأحيانا يكلف بعض المدنيين بالاتصال ببعض العسكريين. فمثلا كلف السيد بحام ولد محمد لقظف بالاتصال ببعض العسكريين، كما اتصل محمد يحظيه ولد ابريد الليل بأحمدو ولد عبد الله، الذي كانت تربطه به صداقة شخصية غير معروفة لدى الكثيرين وكان كلما خافوا من حدوث فتور بالنسبة لبعض العسكريين يتصل بهم بعض الشخصيات المدنية، وهو ما تم بالنسبة لمحمد يحظيه، عندما اتصل بهيداله وأحمدو ولد عبد الله لجس نبضهما عن طريق شخص يعرفان أنه لصيق بمحمد يحظيه ويعبر عنه، فوجدهما لا زالا متحمسين للقيام بالعمل وأشد حرصا عليه، وكان كل واحد منهما يوصي بالتكتم ويحذر من بعض العناصر.
كما تم الاتصال بالمحجوب ولد بيه وضمه، بغية الاتصال بهواري بومدين للمساندة في حالة الفشل، أو إذا حصل تدخل خارجي لإفشال الانقلاب، وذلك ما تحقق عن طريق أحمد بابه ولد أحمد مسكه: القيادي في البوليزاريو آنذاك.
ورغم اتسام أسلوب العمل بالبساطة والسطحية أحيانا، فلم تتسرب أخبار الانقلاب، علما بأنه حدثت حالات من الإحباط والانتشاء، عبر مسيرة التحضير واشترك في العمل عدد كبير من ألوان الطيف.
ومن جملة ما حدث أثناء التحضير للانقلاب، هو: أن جدو ولد السالك خلال تنظيمه لإحدى الاجتماعات القلائل في منزل أحمد ولد الوافي، قد أحضر محمد خونه ولد هيدالة وأحمدو ولد عبد الله وسد عليهما المنزل وذهب ليحضر المصطفى ولد محمد السالك، لكنهما عند ما حضرا إلي المنزل لم يعرف جدو أين وضع المفتاح فاضطروا لكسر إحدى نوافذ المنزل، ليخرج من كان به.. وهي حادثة قد تبقي طويلا في ذاكرة المعنيين، لأنها لا تنسجم ومتطلبات السرية المطلقة التي كان يتطلبها الموقف آنذاك.
وكان لافتا أن هذه المجموعة، لم تستفد من التجارب العربية المتعلقة بالانقلابات العسكرية، رغم انتماء بعضها إلى أحزاب قومية عريقة ورغم شيوع استخدام العسكر من أجل الوصول إلي السلطة في المنطقة العربية، حيث كان زعماء العاشر من يوليو الأوائل متأثرين بهذا المناخ العربي ..ويعللون هذا القصور بأنه يتجلى في بعض الجوانب الارتجالية، عكسها تحديدهم لشهر يناير في البداية كموعد لتنفيذ الانقلاب.. لكن ذلك لم يتم، واستمرت الجماعة في التحضير لعمل، دافعهم الأساسي فيه، هو: الرغبة في الإطاحة بالنظام القائم.
ومن المفارقات في هذا الشأن، أن حزب البعث في العراق كان يساند المغرب، في حين كان زعماء من الفرع الموريتاني، يعملون من أجل الإطاحة بنظام حليف للمغرب. ويرجع محمد يحظيه ولد ابريد اليل ذلك إلي أن الانقلاب ليس انقلابا للبعثيين وإنما هو انقلاب شارك فيه خليط من الشخصيات متعددة المشارب والرؤى جمعتها الرغبة في الإطاحة بنظام المختار ولد داداه............ يتواصل