قد لا يجادل الكثيرون في كون التعليم المدرسي والجامعي، يمثل الأداة الجوهرية لبناء الإنسان ووضع ملامح موقعه الإجتماعي ودوره داخل أي مجتمع، لذا قد لا نفاجأ إذا لاحظنا أن هناك من يتلقفه لاستغلاله ولتنفيذ أجندته من خلاله، سواء أكان المستفيد داخل الوطن أو خارجه، لذا عانينا نحن هنا انطلاقا من هذه الخلفية كما عانى التعليم عندنا أيضا من تجاذباتنا السياسية ومن تبعية أنظمتنا للمستعمر واستعداد فئات من شعبنا للتجنيد لصالح هذا المشروع الذي يكرس تبعية بلدنا وارتهانه الثقافي والحضاري لبلد غير مسلم ولفضاء يختلف عنا حضاريا وعقائديا، بل ومتناقض معنا في المصالح وفي الأهداف.
إنها الضريبة التي دفعها ويدفعها بلدنا عندما قررت فرنسا استعماره وإخضاعه لهيمنتها، فقد بدأت بتصفية رموزه الوطنية المقاومة لاحتلاله عن طريق وضع السم في كؤوس الشاي(لأهميته آنذاك ورغبة الناس الشديدة فيه) وإثارة الفتن والقلاقل بين العائلات القيادية في القبائل والإمارات، وأتبعت ذلك بخلق تناقض في المصالح وتقطيع لأوصال مجتمع " البيظان" وخلق واقع جديد ممنهج يخدم مبدأها المقدس"فرق تسد". هذه الخلفية وهذا الصراع انعكسا علي واقع التعليم في موريتانيا، عندما وجد الفرنسيون أمامهم نمطا تعليميا راسخ الجذور، فأقدموا على حرق مكتبات الجنوب ونعتوا علماء البلد بأنهم أميون وسطروها في جوازات سفرهم، بحجة أنهم لا يعرفون الفرنسية-التي ما كان لهم أن يعرفوها ولا ينبغي لهم اجتماعيا الإشتغال بها- فقام الناس بتهريب أبنائهم خوفا عليهم من الإدخال الجبري في مدارس الفرنسيين.. فلم تنجح عملية التغلغل الثقافي تلك إلا بعد إعلان استقلال الدولة الموريتانية وعندها فقط بدأت لغة المستعمر تنتشر بوصفها لغة العمل والإدارة، التي يستحيل الإستغناء عنها بالنسبة لأي دولة تساير العالم وتعمل وفقا للمنطق الدولي..وكان الدليل الماثل أمام الموريتانيين، هو: الفضاء الإفريقي المجاور، الذي ربطت البلاد به وفرضت عليها عزلة عن فضائها العربي ومحيطها المغاربي.. وتتجلي هذه الوضعية من خلال ما حصل للداعية محمود با، الذي اتهمه الفرنسيون بأنه يمارس تجارة الرقيق، عندما بدأ بإرسال أبناء "الفلان" للتعلم في الأزهر، نكاية به وقطعا للطريق علي سعيه النبيل الهادف إلي ربط قومه بدينهم من خلال تلقيهم لمعارفه داخل مؤسسة هي القائدة الفعلية لأهل السنة والجماعة، ورغم هذه المقاومة الشرسة، فقد تمكن المستعمر في النهاية من تغليب كفته وأدخل لغته ضمن المصالح الوطنية لبعض الفئات- هم من كل القوميات- وأداة للعمل داخل دواليب الدولة الناشئة.
عندما أقحم التعليم في السياسة
رغم أن موريتانيا بلد مسلم بالكامل، ظل لأكثر من ألف سنة يستخدم اللغة العربية في تعليمه ومراسلاته وفي حل نزاعاته، إلا أن الفرنسيين نجحوا في استمالة البعض إلى صفهم وعملوا علي إحلال لغتهم محل اللغة العالمة لشعب الدولة الموريتانية الوليدة، فكانت احداث1966 وما تلاها من محطات مؤلمة والتي أخذت طابعا عرقيا- للأسف- هي الدليل الكاشف لكل خيوط اللعبة الداخلية والخارجية والموضح لحجم التآمر الفرنسي علي لغة البلد وعلي مقوماته الحضارية. وكشفت تلك التطورات وهذه اللاحقة أن فرنسا من خلال إصرارها علي إحلالها للغتها محل لغة أهل البلد، قد أوجدت عامل تنافر بين فئات وعناصر البلد، بفعل تجاذبات المصالح الشخصية والفئوية، الشيء الذي أدي إلي تفتيت البناء الذي شيدته فرنسا نفسها وأصبحت سياستها الثقافية هاته، أهم معول لتهديم الكيانات التي اصطنعتها في المنطقة. إن إدخال التعليم ضمن هذه اللعبة التي امتزج فيها الداخلي مع الخارجي وتداخل فيها الوطني مع الأجنبي، هو الذي أدخل التعليم الموريتاني في هذه المتاهة التي يستحل أن يخرج منها ما دامت تتداخل فيه هذه الخيوط وتحركه تلك الخلفيات ويستحيل أن يتحول إلي أداة للتنمية ووسيلة للوحدة، إلا بعد إخراجه عن سياق هذه التجاذبات المتعددة الأطراف وتحويله إلي نبتة محلية وحاجة وطنية خالصة، مكرسة للصالح العام، بعيدا عن ذاك الواقع المشوه الذي يجعل من العلم أداة تفرقة وتنافر ويحوله إلي معول هدم بدلا من أن يشكل أداة تطور وازدهار. هذا إذا كنا نريد فعلا أن نمتلك تعليما موريتانيا، يخدم التنمية ويجسد وحدتنا الوطنية.
بقلم/محمد المختار ولد محمد فال كاتب صحفى