انتظرنا لبعض الوقت، حتى تكتمل إجراآت دخولنا إلي الديار المصرية من معبر رفح المصري، الذي كان وقتها يعج بالمسافرين..انتظار استغله أولئك الذين تأخروا في تناول وجبة الغداء، أما عبد ربه الضعيف هذا، فقد جمع خلال فترة الإنتظار تلك ما اعتبره فضيلتي تغذية الجسم والذهن، لذا وجدتها فرصة ذهبية للحديث مع الشيخ- الذي كان يجلس بجانبه نقيب المحامين: ذ/أحمد سالم ولد بحبين- فوجهت للشيخ الددو أسئلة من بينها: حقيقة وتفاصيل الرؤيا التي رآها وهو في السجن، والتي تأكد بسببها من نهاية حكم ولد الطايع، أياما قبل سفره إلي السعودية .. قصة كان قد رواها لي آنذك النقيب بحبيني، وقال لي إن الشيخ الددو قد خصه بها دون غيره من المحامين، لأنه رآه ضمن مشهد الرؤيا تلك.
روي لي الشيخ الددو تلك الرؤيا بتفاصيلها وتأويلاتها ورموزها الدالة ومن بينها وفاة الملك فهد وذهاب ولد الطايع إلي السعودية للتعزية وقدوم عسكري يشبه من بعيد العقيد اعل ولد محمد فال حاملا لحقيبتين، ما لبث أن تغيرت ملا محه كلما اقترب من الشيخ وهو في الكعبة، ليتحول إلي عسكري آخر قد يكون ولد عبد العزيز(لأنه وقتها كان الشيخ لا يعرفه).
ومن ضمن الإشارات الدالة، هي: كون الحقيبتين تعبران عن السنتين اللتين مثلتا المرحلة الإنتقالية.. حقيقة أكد النقيب بحبيني صحتها لجلسائه عندما سافر معاوية إلي السعودية، مؤكدا لهم حتمية حدوث انقلاب علي معاوية خلال سفره ذاك، لأن ملامح القصة التي رواها له الشيخ الددو قبل أيام بدأت تتحقق علي مستوي الواقع.
# # # #
كان لظهور "عم امحمد" نكهة خاصة، وإيذانا بدخول مرحلة تمتاز بمذاق متميز، حيث تزامن خروجنا من رفح المصري، مع انطلاق موكب المجاهد خالد مشعل، الذي صادف دخوله ألي غزة وخروجه منها دخولنا إليها وخروجنا منها، لكن سرعان ما تجاوزناه بفضل انضباط السائق: "عم امحمد" وتنفيذه للتعليمات التي تصله ب" الحسني"من منسق الرحلة: الأستاذ محمد غلام، تعززت هذه السلاسة بفضل إكراميات الشيخ ل"عم امحمد" ومرافقينا المصريين الآخرين.
كان للتمر الذي اشتراه لنا منسق القافلة من غزة- والذي كتبت عليه عبارة: "صنع في إسرائيل"- خير رفيق لنا خلال الرحلة التي توقفنا خلالها عند إحدى المحطات الكثيرة، التي تحف جانبي الطريق التي تشق صحراء سيناء والتي هي عبارة عن شريط، تحيط به الصحاري وتقطن بجواره تجمعات قبلية في "وديان" تنسب إليها، وهي أودية، عبارة عن واحات صغيرة، تشبه تلك المتناثرة في المناطق الصحراوية عندنا.
وبما أن سيناء تعيش وقتها توترا أمنيا- فوجئنا بشدته- فقد فرضت السلطات الأمنية المصرية علينا عدم التحرك، دون أن تكون معنا حراسة فعالة، وهي حراسة تزيد درجاتها، كلما اقتربنا من غزة وتقل نوعيا كلما اقتربنا من مدينة السويس (في الإتجاه الآخر)، وقد كان خبر انقلاب المدرعة التي رافقتنا خلال محطة (العريش-رفح ذهابا) وموت الضابط الذي كان مسؤولا عنها وبعض الجنود الموجودين معه- والذي علمنا به خلال رحلة العودة- خبرا غير مريح بالنسبة لنا بالطبع.
ورغم أن وقت الغروب حل مبكرا(قبل الثالثة مساء)، إلا أن رحلتنا الليلية هذه بين رفح والقاهرة، كانت جد ممتعة ولم نشعر بطولها، بفضل مبادرة المدير الفني للقافلة، الذي جلس في مقدمة الباص- كعادته- إلي جانب "عم امحمد" لغايات يعرفها أعضاء القافلة جيدا ونعموا بنتائجها.
فقد كانت قصة" اتشيبين" عند الفنانة المعلومة، مقدمة لقصص كثيرة ولأحاديث شملت عناصر معتبرة من الوفد، أزالت الحرج بين أعضائه وعشنا خلالها جوا موريتانيا خالصا.. أخذت النكت ذات الطابع "التروزي" عنصر السبق فيه من خلال المساهمة الفعالة للشيخ الددو، الذي بذل جهدا مضنيا من أجل تخفيف متاعب السفر عن المجموعة، فكان بحق شيخا في العلوم الشرعية- وهو جانب خبره الجميع- وشيخا في النكت وخفة الظل وشيخا في التواضع وشيخا في الحميمية مع أعضاء الوفد وفقا لأسلوب موريتاني رقراق وجذاب.
إنه يوم طويل من حيث المسافة وقصير من حيث الزمن النفسي، شكل تجربة نوعية خلال رحلة العودة من غزة، انتهت بوصولنا إلي القاهرة، فوجدناها متلألئة ووهج شوارعها يشي بحقيقة جسدها التاريخ ورسختها الجغرافيا، صنعها فرسان ترجل بعضهم شهيدا خلال حروب بارزة في التاريخ وآخرون لا زالوا يصارعون من أجل أن تبقي مصر قلعة للعروبة والإسلام.
بتنا ليلتنا تلك بالقاهرة وكنا نتحدث عن انطباعاتنا عن غزة وأسودها المجاهدين وسكانها المرابطين، حيث لا متسول- رغم الفاقة والحصار- وحيث الطمـأنينة التي تسكنك وأنت في ربوعها..غزة العزة التي أذلت جموع المتكبرين ومرغت أنف آلة التدمير الصهيونية في الوحل، فاستحقت مؤازرة العالم وتبوأت مكانة لا ينالها سوي الأبطال المتفردين عبر التاريخ.
في الصباح اتجهنا صوب المطار، حيث تولي الشيخ الددو مهمة الدليل السياحي لتعريف الجماعة بمعالم وآثار القاهرة، فكان يحدثنا عن الأماكن التي نمر بها، كالأهرامات ومقبرة "القرافة"، التي دفن بها- حسب الشيخ: الإمام الشافعي وأشهب وعبد الرحمان ابن القاسم والليث (وهو من رواة المدونة علي ما أعتقد) والحافظ ابن حجر والعز ابن عبد السلام...إلخ من المعلومات الغزيرة التي قدمها لنا الشيخ الددو بسخاء خلال رحلتنا من القاهرة إلي المطار، الذي ما إن وصلناه، حتي انقسمنا إلي فريقين: واحد شرق وآخر غرب، فتحولنا بعد هذه القسمة- التي لا نشك في أنها ضيزي- إلي مسافرين عاديين- بفعل افتراق الثلاثي ممين والشيخ وإسحاق- كل واحد منا نحن المتجهين غربا، يمني النفس بالوصول مساء نفس اليوم إلي نواكشوط، التي فوجئنا لحظة وصولنا إليها باستقبال جماهيري كان قمة في التلاحم مع عناصر القافلة، حيث خصص بعض ساكنة نواكشوط لنا استقبالا مشرفا، أظهروا لنا خلاله كل التقدير والإحترام، ولم يقصر الإعلام الخصوصي خلال هذا الإستقبال، الذي يشي بسيل من المشاعر الجياشة والصادقة.. موقف أنسانا متاعب السفر ومرحلة الإنتظار الطويل في مطار قرطاج الدولي.
إنها رحلة لا تخلوا من جوانب إنسانية لا تنسي وشكلت كذلك فرصة للتعارف بين جماعة كانت قمة في الأخلاق والنبل والمسؤولية.. أعطتنا الدليل القاطع علي أنه لازال في بلدنا هذا الخير الكثير والكثير.
فقد كون الثلاثي: إسحاق والشيخ(مدير طب بوحديدة)وممين،ملحا للرحلة وشكلوا عنصر ألفة داخل المجموعة، وأداة لمواجهة الروتين.
أما الشيختان: المعلومة بنت الميداح وزينب بنت الددة، فقد كسرتا قاعدة راسخة في أدبيات شعبنا، تتمثل في" صحبة الفنان والزاوي"
زميلي: مدو والوديعة، كونا ثنائيا متناغما، لا يعكره، سوي ارتباطات الوديعة العضوية مع عدد من أعضاء الوفد يمثلون بالنسبة له"إخوة" وأصدقاء درب استطاع الزميل "مدو" ملأ لحظات الفراغ تلك بعلاقة حميمية مع السجائر.
فقد كان هذا الثنائي قمة في المسؤولية والأخلاق وكانت مداخلات الزميل مدو- الناطق الرسمي باسم الوفد- خارج الإطار الرسمي لا تخلوا من طرافة وتدل علي ثقافة واسعة.
أما الزميل الوديعة ف"ثأره" الوحيد كان مع "ممين"، الذي يبدوا أنه كان دائما يجيد فن الظهور بمظهر الضحية أمام الأشخاص غير العارفين ببواطن الأمور داخل الشلة، التي "يهاب" عناصرها في نفس الوقت الإقتراب منه خلال اللحظات التي كنا نقتنصها خارج الإطار الرسمي.
الشاب إسلم كان فنانا بمعني الكلمة، اكتشفت فيه هذه الموهبة من خلال سعيه لتصوير فتية من العريش وهم يلبسون دراعته الشخصية وانشغاله بتصوير الرسومات الحائطية في شوارع غزة واهتمامه برصد وتصوير مختلف مظاهر الحياة لساكنة القطاع.
لقد كان الفنان إسلم والشاب محمد قمة في التواضع وفي الاستعداد اللا محدود لخدمة الجميع.. ويكفيهما أنهما تحملا أعباء الشاي ومضاعفاته الرديفة داخل غرفتهما.
أما الإمام " عبد الله صار" فقد كان متميزا ويتمتع بأخلاق وأريحية، يندر أن يجتمعا في شخص واحد وكان لديه الإستعداد الكامل لتوفير خدمة التصوير، بكل أريحية وود، ويبدو أنه سمع بحي التكرور في غزة، وأراد أن يعرف هل "تكرورغزة" يتحدثون نفس اللغة التي يتحدث بها "تكرورفوتا"، لذا حرص أحيانا علي الحديث بالبولارية، ليقيس-ربما- صدقية وجود هذا الحي بتلك الربوع، التي لاحظنا أنها تحتضن الأبيض والأسود والأحمر ولم يثنه عن هذا السعي، كونه كان الشخص الوحيد العارف بمضمون حديثه ذاك.
وبالرغم من ذلك كله، فقد نجح الإمام صار في إيصال "البولارية" إلي غزة، وهي خطوة يجب أن يفهم الصهاينة دلالتها وخلفيتها الحضارية الناصعة، والمتمثلة في أن همجيتهم ووحشيتهم دفعت بغزة إلي أن أصبحت اسما يتردد علي ألسنة جميع الأمم والشعوب وصارت قبلة لأحرار العالم الذين استفزتهم تلك السادية الصهيونية والبربرية الغربية الرسمية ودونية حكام العرب.
أخونا "أيده" فاز بتزكية الشيخ الددو، الذي دأب علي تقديمه لكبار الشخصيات، بوصفه شخصا من أبرز المتبرعين لغزة في هذا المنكب البرزخي، كما كان أيضا قمة في التواضع، ولم نشاهد عليه انزعاجا يذكر، لحظة تأكده من نسيانه ل"شنطته" الصغيرة في مطار القاهرة خلال رحلة العودة.
الأحزاب السياسية مثلهم الرئيس صالح ولد حننه خير تمثيل، كما كان أفضل صديق للشاي الموريتاني طيلة الرحلة، فضلا عن صفات النبل والكياسة، التين امتاز بهما، إلي جانب مواقفه الوطنية، التي يعرفها الموريتانيون أكثر من غيرهم.
كما شكل نشاط نقيب المحامين: ذ/بحبين داخل غزة خير تمثيل للمحامين الموريتانيين، وكانت زيارته هذه لغزة فرصة، جعلت منه أول محام غير فلسطيني يدخل البناية الجديدة لسلك المحامين الفلسطينيين في غزة العزة، فضلا عن رزانته وابتعاده عن الجدل اللفظي والصخب الكلامي.. لقد امتاز بالجدية والإحتفاظ بمسافة بينه وبين الجميع، لا تعبر عن استعلاء ولا تصل مستوي الحميمية المفرطة، لقد كان نقيبا بامتياز وأخا ودودا للجميع.
كما شكل تكريم الفنانة المعلومة من طرف الفنانين الفلسطينيين بغزة جرعة معنوية لصالح الوفد، تلت التكريم الذي حظي به الوفد الموريتاني يوم أن تم اختيار الشيخ الددو ليتحدث باسم 2500 متضامنا أجنبيا خلال الحفل الحاشد المنظم من طرف "حماس".
أما المدير الفني للقافلة: الأستاذ محمد غلام، فقد كان قمة في السهر علي راحة الوفد، كل حسب خصوصيته، وكان من الذين يوثرون علي أنفسهم، كما كانت أعصابه موضوعة في الثلاجة، طيلة الرحلة.. وقد لاحظت فيه جوانب من الألفة والتواضع للجميع، شكلت سمة طاغية، حتي لحظة وصولنا إلي أرض الوطن.
إنه رجل يستحق- في نظري لقبا يتجاوز: "سفير القضية الفلسطينية"، يعكس تضحياته وتفانيه وإخلاصه لهذه القضية المقدسة وينسجم مع حجم الإستقبال الجماهيري الذي حظي به بعد عودته من مذبحة سفينة "مرمرا".
الفقيه محفوظ، شكل النموذج الجيد للإنسان الموريتاني الملم بشرع ربه والمحافظ علي قيمه وأخلاقه، فكان إنسانا تحس في نبرة صوته صفاء السريرة وحسن التربية، كما كان نعم الرفيق في الحضر والسفر.
أما الجانب التنظيمي الطاغي علي شخصية السيد إسحاق ولد الكيحل، فيبدوا أنه دفع ببعض أعضاء الوفد إلي أن يشوشوا علي هذه الإيجابية، من خلال قصة التأخر، التي "لفقها" له البعض تحببا وإعجابا.
الجندي المجهول: محمد عالي ولد الكرار، كان يفضل الظل ويكتفي بلحظات قليلة تجمعه بالجماعة، لانشغاله بمواعيد ونشاطات الشيخ، ميزته أنه يتمتع بعلاقات ودية مع الجميع ويسهل التواصل معه، لدماثة أخلاقه وعدم انشغاله بغير الجوهري والأساسي.
لقد كانت رحلة نعمنا خلالها بتبوء المقدمة من بين الوفود الزائرة بدون منازع وذلك بفضل رئاسة الشيخ الددو للوفد الموريتاني، حيث كنا في غزة نمثل دولة عظمي بين مختلف الدول.. كل ذلك بفضل المحظرة الشنقيطية، التي أمدتنا بأحد جهابذتها دون منازع.. حقيقة برهنت علي أن لا مكانة للشناقطة بين الأنام إلا من خلال محظرتهم، فهي ملاذهم الوحيد- ماداموا حتي الآن لا يملكون ثروة مادية ولا أخري بشرية..فهي إذن صديقهم الوحيد فليلزموها إذا كان من بينهم من هو قادر بعد علي حفظ ود الأصدقاء.
لقد شكلت رحلة قافلة غزة الثالثة إذن فرصة للشعب الموريتاني، مكنته من اكتشاف ذاته وعكست له صورته البراقة والحضارية في المرآت، لذا كان فخورا بهذه المساهمة، التي كانت باسم موريتانيا ولصالح بلد نكب ببعض الرويبضة الذين تحكموا في مصيره وتحدثوا باسمه عبر العالم..إنها محاولة لإنقاذ صورة هذا البلد من فعال بعض منتسبيه، ووقفة ضد الظلم ونصرة للمظلوم وصفعة للمطبعين الخانعين.
بقلم/ محمد المختار ولد محمدفال
كاتب صحفي