من المقبول أن يصاب الناس بالسأم والملل من نظامهم السياسي، الذي يحكم بلدهم- عندما تطول مدته وتتشعب أذرعه داخل الجسم الوطني- وقد يصبح هذا الرفض ترفا، عندما نتذكر رفض الألمان التمديد لمستشارهم: "هيلموت كول"، الذي وحد ألمانيا وبني اقتصادها المزدهر.
لكنه ليس من المألوف أن يصاب نظام كالذي يحكم بلدنا اليوم بالكساح والهزال بهذه السرعة المفرطة، التي فاجأت الجميع عندما تبخرت مظاهر قوته وبدأت تضمر عيانا عضلاته "المفتولة"( التي يفترض فيها أن تخوف العامة وأن تضعف عزيمة الخاصة) قبل اكتمال الحولين، رغم تبنيه لخطاب ينبذ "الفاسدين" و"المفسدين"، وتمظهره بمظهر "السوبرمان"، القادر علي خوض الصولات والجولات خارج الحدود وداخلها.
نظام استبشر به البعض للأسباب السابقة، وشكك فيه آخرون وفي نواياه الحقيقية، ودوافعه الظرفية، بل نعتوه بأنه عاجز عن كنس بيته، و عن خلق طبقة سياسية، تتبني شعاراته وتندفع لمساندته، لأنه في النهاية عبارة عن"النعجة: دولي" استنسخ بطريقة مشوهة من النظام الذي أفرزه، ولكونه مجرد حكم فردي فاقد للأفق السياسي، وأبعد ما تكون تصرفاته خضوعا لمنطق الدولة، وفاشل كذلك في تقمصه لنمط الحكم المتكئ علي العائلة.
صحيح أنه زرع الأمل في البداية، عندما رفض نهج سلفه(الذي هو صنيعته) وتضاعف هذا الأمل عندما استمر- في أحلك الظروف- في رفع شعار: محاربة الفساد وضرورة نبذ جميع الفاسدين والمفسدين علي مستوي الخطاب علي الأقل، لكنه سرعا نما خيب الآمال، عندما استعان بحلفاء وأعوان فاسدين، وعندما استنسخ الحزب الجمهوري بأدواته وأسلوبه.
وعندما دخل في مغامرات خارجية غير محسوبة، بدت للمراقب مكلفة وبلا أفق واضح، ونظر إليها المواطنون بقلق، بوصفها قفزة نحو المجهول، تزامن هذا الوضع مع غلاء فاحش في أسعار المواد الأساسية، وضمور قاتل لجيوب المواطنين بجميع طبقاتهم، فسدت الحوانيت التجارية حسب متوالية هندسية و انهارت قطاعات حيوية،(مثل: العقارات - التعليم – الصحة) بشكل لم يسبق له مثيل، كما بدت سياسات الإسكان المتبعة، مرتجلة وغير عادلة: البعض عوض بالملايين وبالقطع الأرضية المجانية في تفرغ زينه، لأنهم بالصدفة كانوا وقتها يسكنون في منازل"بلوكات"- لغايات عرفها من عرفها وجهلها من جهلها- في حين لازال آخرون ينعمون بمساكن تملكها الدولة- رغم خوفهم من المجهول- والبعض الآخر أخرج قسرا، بحجة المساواة والعدالة وتخفيف الأعباء المادية عن الدولة، فتضاعفت التكاليف علي الدولة ثلاث مرات ولم تخفف التعويضات (السخية)من أعباء الإيجار الفجائية والمكلفة..كما لم تخلو عملية التخطيط من هفوات خطيرة، لولي ظهور ثورات الفيسبوك الفجائية.. والتي بفضلها أحصي من رفضت السلطة إحصاءهم ألف مرة ومرة وتراجع النظام "العادل" عن "عدالته" تلك ، دون تقديم أي تفسير أوتبرير.
أما رجال الأعمال فلهم تظلماتهم وحججهم الكثيرة وحكاياتهم المؤثرة، تظاهرات الشغيلة عمت الشوارع هذه الأيام بدرجة غير مسبوقة.. فشلت قطاعات حيوية، دون أن تبدو في الأفق إشارات تطمئن المرضي والعاطلين عن العمل حول إمكانية إيجاد حل لمعاناتهم ومعانات الفقراء من طرف "رئيس الفقراء".
قد لا تكفينا هاته المساحة المخصصة للنشر، إذا نحن تتبعنا جوانب الخلل والقصور في الأداء الرسمي الحالي علي المستويات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية وحتي النفسية، لذا سأكتفي بمثال واحد تكتوي البلاد بناره هذه الأيام والذي يمثل أقوي مؤشر علي واقع الأنظمة السياسية( قوة أوضعفا):
إنها الفتنة، التي أخذت أشكالا عرقية وفئوية، بل وأحيانا قبلية، ولا يمكن السكوت عن تمظهرات ومظاهر هذا التفسخ الخطير والمدمر للبلاد والعباد، لأنه في النهاية تطور يهدد حاضرالوطن ومستقبله ولا يمكن تفسيره إلا من خلال هشاشة حضور الدولة في حياة الناس وترهل آلياتها وذبول عنفوانها وهيبتها،التي كانت تشكل سياجا للوطن وحماية للمواطن.
ألا تمثل التشنجات - المفتعلة أو المبررة- داخل شوارع العاصمة هذه الأيام، سمة مقلقة، بفعل طابعها الفئوي والعنصري أحيانا؟ لماذا لا نبحث عن الدوافع وراءها؟ وعلي أي أساس ظهرت (فجأة) تلك المواجهات العرقية داخل جامعة نواكشوط؟ هل هناك دخان بدون نار؟
ألا تعيش الأسر هذه الأيام حالة من الإستنفار والهلع، لا لشيء، سوي أنه أصبح للقانون من يطبقه داخل الوطن بعيدا عن الدولة، بل إنها للأسف أصبحت مجرد تابع متهم يطبق بالضغط وينصاع بالإكراه؟
لقد هرم هذا النظام فعلا وذبل أداؤه ولن تسعفه عملية تجديد شبابه من خلال حزبه الشبابي المرتقب، لأنه بكل بساطة سيتصرف- كأطفال البادية- مثل الكبار وبنفس طريقتهم وعلي منوالهم، فلن يشكل هو الآخر، سوي قفزة نحو المجهول، ونسخة باهتة عن "الإتحاد من أجل الجمهورية"، لتشابه الدوافع والأهداف عند جميع المنخرطين في الحزبين، الذين يستنشقون جميعهم هوي السلطان، ولن يذهبوا إلا حيث يظنون أنه المربع الذي يرغب فيه الحاكم، فلا تصفيق بدون أجر ولا موالاة بدون منفعة.
فالقناعة معدومة داخل هذه الأوساط، التي لا يحركها عادة، سوي المصالح الذاتية – إن لم نقل التمصلح- أليسوا هم نفس الأشخاص المنخرطين في " الحزب الجمهوري" و"عادل" و"الإتحاد من أجل الجمهورية"؟ ألم يتندر البعض هذه الأيام بأن ناسا من أساطين "حزب الشعب" و"الحزب الجمهوري"، يسعون هذه الأيام لتغيير تواريخ ولادتهم، لينضموا إلي صفوف حزب الشباب الجديد، طمعا في رضي السلطة وتزلفا لها؟
فيجب أن لايضيع الوقت وأن لا تهدر الوسائل الشحيحة افتراضا وأن لا تذكي الضغينة والحسد داخل أبناء البيت "المؤيد"، فهناك صيغ كثيرة للحكم، يجب أن يتم البحث عنها من خلال التجارب العالمية الناجحة وبين أصحاب الكفاآت وذوي الخبرة والإستقامة.
فلكل مرحلة رجالها ولكل تاريخ أبطاله، تفرزهم المحن وتخلدهم الإنجازات والتضحيات، لكن في المقابل أيضا هناك أشخاص لا هم لهم، سوي قراءة التاريخ بالمقلوب، والسير بشعوبهم عكس التيار.
فلنختر إذن لبلدنا واحدا من هذين الخيارين..وعندها يجب أن نتحمل جميعا مسؤولية الإختيار، بعيدا عن تقليد النعامة في تقاعسها أو الببغاء في إمعتها، مادام هذا النظام الذي كان يبشرنا بأنه سيكون قويا أمينا، والذي لم يتحل بالأمانة ولم يستعن بأهلها.. أما القوة، فلا نجد لها هذه الأيام، من وجود، إلا عند أولئك الصبية، الذين يمنعون السيارات من المرور داخل بعض أحياء العاصمة، أمام مفوضيات الشرطة المستبسلة والباسلة.
بقلم/محمد المختار ولد محمد فال