قال تعالى:{ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}. ما من شك أن الرجال الذين تصلح بهم الحياة ويطيب معهم العيش ليسوا نماذج معتادة من هذا الغثاء الكثير الذي تراه العين ولا تجد فيه طائلا .
إن الذين تصلح بهم الحياة نماذج فريدة للفضائل الجليلة والأخلاق النبيلة والمواهب التي قلما تلقى نظائرها لأنها كالمعادن النفيسة لا توجد إلا على الندرة .
والمقطوع به أن حاجة الإنسانية إلى أولئك الرجال كحاجة العقل إلى المعرفة التي يتألق بها، وحاجة الجسم إلى الطاقة التي يتحرك بها.. ووجود ألئك النماذج بعض الخير الذي يبثه الله في الحياة ليعيد إليها توازنها إذا اختل . وبعض الأمان الذي يسكٌنُ به النفوس القلقة، ويرجع إليها ثقتها بالحق إذا هالها ازدحام الدنيا بالأوغاد والمبطلين ...
والنماذج هذه هي المبشر بها في موعود الوحي الإلهي والهدي النبوي وقد قال الحبيب المصطفى– صلى الله عليه وسلم- القائد القدوة والأسوة الشفيع- صلى الله عليه وسلم:فعن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : " إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا" الحديث رواه أبو داود ب(رقم/4291) وصححه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (149) ، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/599.
والمجدد قد يكون فردا أو جماعة، المهم أنهم يجددون مظاهر التدين في حياة الناس ويمهدون السبيل ويعبدون الطريق لتمكين الدين وتطبيق أحكامه في حيات الناس ودنياهم .
وقد أخرج الطبراني في سننه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-أنه قال:" يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغاليين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"، وبعضه في مسند الإمام أحمد .
أما نماذج طلاب المال والجاه عند السلاطين من الفقهاء القادة هم الذين إذا رأوا الحق معك كرهوك من أجله، أو كرهوه من أجلك، قال تعالى:{ يحسدون الناس على ماءتاهم الله من فضله}. فإذا وجدوا أنفسهم لا مناص لهم من ذلك الحق حولوه إلى تجارة خاصة، ثم حاولوا احتكار الصنف، لينفردوا بمغانمه، كأن الإيمان سلعة تباع في سوق الجشع والمنفعة. وليس جهاداً ترجح مغارمه بكل ما ينشده الانتهازيون من مال وجاه..
إن التجديد وإحياء التدين في الحياة وبناء الحضارة ونهضة العمران لا يبلغ ذلك كله تمامه إذا أشرف عليه صغار القلوب وعباد النفوس والشهوات .. والإسلام إذا قاده في مجال السياسة والحكم السفهاء فلن يقودوه إلا إلى الكساد والبوار؟!
وإذا تصدر فيه عباد الشهوات والجاه والسلطان ميدان الدعوة والتوجه والإرشاد والتربية والإعداد كان الخراب والدمار.. فمن الذي يحسب أن أصحاب الأفئدة الصغيرة والأهواء الكبيرة يحيون فضلا أو يحسنون صنعاً..
إن الأمة لتحتاج اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى علماء يملكون من البصيرة ما يمكنهم من احتضان من جنح به الغلو أو طار به الجهل، فقهاء يحجزون الناس عن الوقوع في الجاهلية أو الجهل، لا فقهاء يلتمسون للأبرياء العيوب وحشر المذنبين في زاوية الذنب؟
فقهاء يخجلون من وصف المتدينين المجاهدين بالنفاق، ووصف الظالمين الفاسدين المستبدين بالعدل والقسط والنصارى واليهود والشيوعيين الذين يحرقون الأخضر واليابس ويدمرون المنازل على رؤوس النساء والأطفال والحيوان في بلاد المسلمين بأنهم أهل عهد وأمان ورسل محبة وسلام؟!
نحتاج إلى فقهاء يمتلكون القدرة على احتضان المتشددين وتوظيف طاقاتهم وحماسهم وجهادهم في سبيل دفع الظلم الواقع على الأمة وإصلاح ما فسد من دين الناس ودنياهم، فقهاء يعملون لرص الصف المسلم ورد أصحاب الكفاية والإخلاص إلى صفوف العمل الإسلامي .
والفقهاء الناصحون للمسيء وهم فرحون لما فرط منه من إساءته، ويتربصون به العقاب، وهم شامتون لما أصابه من جريرته فهم فقهاء سوء لا رجال إصلاح؟.. وإذا أضافوا لذلك أنهم أنياب ومخالب في يد الحكام المستبدين وكلاء الصليبين واليهود والشيوعيين كانت الكارثة تحكم حلقاتها؟!
ولقد كان الإمام أبي حنيفة النعمان، من ذلك الطراز الذي يحرس الأمة ويحمي الملة ويحارب الأفكار والأقوال المضللة وينافح عن السنة، وقد رفض الإمام أبي حنيفة أن يمارس القضاء للطغاة فسجن وكان يضرب كل يوم عشرة أسواط , فما يزداد إلا قوة ورفضا للباطل وثورة على الظلم والظالمين حاديه في ذلك قول الحق جل وعلا :
{ رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين }ولقد كان الإمام أبو حنيفة أقوى وأعظم من أن يخضع للباطل أو يجامله وبذلك كان قمة الشهداء, وشهيد العلم والمحراب , الذي واجه الحجاج في معترك الفقه ببسالة العالم , كما واجهه في معترك السياسة بعزيمة المجاهد الصابر المحتسب الأمر بالمعروف والذي فسح المجال لفقهه وكتب لآرائه البقاء والخلود ولأتباعه البقاء والانتشار ؟ !
لقد كان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه من أقوى المتكلمين مناظرة وحوارا , ثم تحول إلى فقيه , فخلع عليه من جلال المنطق وقوة القياس ودقة الاستنباط , ما فتح به ميادين مغلقة , ومهد طرقا مستعصية , وقد كان خصومه في الرأي الفقهي يندهشون لقوة سطوته وسرعة بدهية , حتى ليخافون أن يواجهوه في معترك النقاش ؟, وهو الذي نال شهادة العلماء الأفذاذ قال ابن الجوزي في "المنتظم": لا يختلف الناس في فهم أبي حنيفة، وفقهه، كان سفيان الثوري، وابن المبارك، يقولان: أبو حنيفة أفقه الناس، وقيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة ؟ فقال: رأيت رجلاً، لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً، لقام بحجته، وقال الشافعي: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة اهـ.
وقال القاضي عياض في " ترتيب المدارك": قال الليث لمالك: أراك تعرق؟، فقال مالك:"عرقت مع أبي حنيفة، إنه لفقيه يا مصري"، اهـ.
وقال ابن حجر المكي في "الخيرات الحسان" ص 26: "قال بعض الأئمة: لم يظهر لأحد من أئمة الإسلام المشهورين، مثل ما ظهر لأبي حنيفة، من الأصحاب، والتلاميذ، ولم ينتفع العلماء، وجميع الناس، بمثل ما انتفعوا به، وبأصحابه في تفسير الأحاديث المشتبهة، والمسائل المستنبطة، والنوازل، والقضاء، والأحكام"، اهـ.
و قال محمد بن إسحاق النديم في "الفهرست": و"العلم براً وبحراً، وشرقاً وغرباً، بعداً وقرباً تدوينه له، رضي اللّه عنه. وقال المجد بن الأثير في "جامع الأصول" ما معناه: لو لم يكن للّه في ذلك سر خفي، لما كان شطر هذه الأمة من أقدم عهد إلى يومنا هذا، يعبدون اللّه سبحانه على مذهب هذا الإمام الجليل، وليس أحد من هؤلاء الثلاثة على مذهب هذا الإمام، حتى يرمى بالتحزب له، رضي اللّه عنه، والله يقول:{ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم}، وسجل القرآن ذلك القصد الذي يجاهد من أجله كل مخلص أواه منيب:{ واجعل لي لسان صدق في الآخرين}.
ولقد دفعت بالإمام أبي حنيفة مكانته العلمية وإمامته الفقهية أن يحترق بنيران السياسة , فيكشف ذلك عن معدنه الأصيل وفقهه البصير, إذ أنه نشأ في الفترة العصيبة التي أدت إلى سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية , فشاهد جولات من جولات الملك والسلطان, كل جولة تختلف عن الأخرى في الأشخاص والأسماء, ويتفق الجميع في العصبية والتهور والبغي, واستفحال الشر, وأخذ البريء بذنب الإثم , حتى خاف كل مسلم على نفسه , وأخذ يتوقع الشر صباح مساء !! والله جل في علاه يقول:{ واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}.
فقد كان الحكم الأموي قد طغى شره, واستشرى خطره, فأولو الأمر من الخلفاء يظلمون, ويعاهدون فيغدرون, ثم يرسلون من الولاة من يترضاهم بالعنف والقهر , فيبالغ في إراقة الدماء وتكميم الأفواه دون حساب, وقد قامت الثورات الناقمة في كل مكان, فكانت تنتهي بمجازر رهيبة , تسفك فيها الدماء دون تحرز, بل ربما كانت شدة الانتقام دليل التغلب, وبرهان الانتصار, والمشفقون من ذوى الإصلاح في الأمة لا يجدون من القوة ما يدفع البغي , فتغلي نفوسهم من الغيظ والحنق متطلعة إلى صباح جديد تشرق شمسه بنور الهداية والسداد , والإمام أبو حنيفة في مقدمة هؤلاء , يرى البغي فيستنكر, ويهم بالثورة عليه فلا يجد من يلتف حوله, ثم يتذكر عواقب الثورات , وما صنعت بزملائه الفقهاء, كيزيد بن على, وسعيد بن جبير, فيصعد من صدره آهة حبيسة , ويتطلع إلى نصر من الله وفتح قريب ! والمشهد يعد نفسه اليوم أنظمة القهر والاستبداد والثورات وداعش وما بقي إلا الإمام أبو حنيفة أما القوم فهم القوم والثورات هي الثورات؟!
ففي ذلك الجو المفعم بالثورات والمواقف والمحن المتلاطمة جاء للإمام أبي حنيفة رسول الطاغية (الوالي يزيد بن هبيرة) يدعوه إلى أن يلي القضاء, مع فريق من رجالات الفقه والتشريع, وكان الإمام بفقهه الدقيق وبصيرته التي قل ما تخطئ في تقدير الأمور, قد أدرك أن هذا الوالي ورؤساءه من الخلفاء(ولاة أمور المسلمين؟!) يريدون أن يتخذوه وأمثاله من العلماء مطية للشر ومركبا للخطر , إذ يتخذونهم للقضاء, فيعلمون الناس أن رجال الفقه وحماة الشريعة يؤيدون حكمهم الطاغي, ويباركون عهدهم الظالم, فيصبحون أداة تخدير تخذل الحق وتعين الباطل, ويا لها من كارثة دهياء تجسدها اليوم روابط الأئمة والعلماء ومراكز البحث العلمي لوعاظ السلاطين .
فالإمام النافذ البصيرة لا يخدع بمنصب ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب , فأعلن الرفض صريحا واضحا , وقال لمن يحاوره من العلماء في عزة العالم المهتدي بالحق: ( والله لو أراد ابن هبيرة أن أعد له أبواب مدينة (واسط) لم أدخل في ذلك, فكيف وهو يريد أن يكتب بضرب عنق رجل مؤمن وأختم أنا على ذلك, الكتاب, والله لا أدخل في ذلك أبدا )، وقد قالها الإمام بداه رحمه الله صريحة مدوية لمحمد خون ولد هيداله في شأن منفذي انقلاب 16 حين استفتاه في شأنهم.
فاستعظم الوالي الطاغية رفض الإمام أبي حنيفة , فسجنه أسبوعين, عساه أن يرجع, فما استكان ولا لان, ثم أمر الوالي بضربه بالسياط , فكان يجلد كل يوم عشرة أسواط حتى تخطى المائة, وأشفى على الهلاك, ولا يزداد إلا ثباتا أمام الله, وتلك عظمة الإيمان ومنقبة الإمام .
وكان أمر ربك قد نفد في الدولة الأموية فسقطت على طغاتها سقوطا أورثهم القتل والفناء والتشريد, وتلك سنة الله الجارية, قال تعالى:{ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد }،وقال:{ وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا}وقال:{ سنة الله في الذي خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تحويلاً} وقال القائد القدوة والأسوة الشفيع:" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلت" وكان الفاروق عمر- رضي الله عنه يقول:" لا يغرنك عدم معاجلة الله للظالم فما يعجل إلا الذي يخاف فوتاً و الله لا يخاف فوتا. ."فالظلم دائما وأبداً عاقبته وخيمة.
وجاءت غريمتها ووارثة طغيانها الدولة العباسية, والتي فرح المخلصون من الضحايا بقيامها, وظنوا أن أسرة العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم, سترعى من الكرامة والحق ما أهدره بنو عمومتهم من بني أمية .
وأن بني العباس سيرفعون الظلم وينشرون الخير بالتي هي أحسن, ولكن الظن خاب, وصدم المخلصون من العلماء وعامة الناس في آمالهم حين رأوا الدولة الأموية تعود ثانية ببطشها الغاشم وقهرها الظالم تحت ستار أسماء تنتسب هذه المرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-, وتهدر شرعته في إحقاق العدل واستتباب الأمن, إنها لمحنة قاسية هذه المرة نزلت بالمؤمنين الأمر الذي دفعهم للتساءل في حسرة ولوعة: متى نصر الله ؟
وكان الإمام المجاهد الصادع بالحق في وجه الظالمين من أولياء أمور المسلمين أبو حنيفة النعمان أشد المخلصين ضيقا بالظلم والشر الذي يتطاير, وأكثرهم تبرما بالخلافة, فا هتبل ثورة (النفس الزكية) , وانضم إلى رجالها, وأفتى بتأييدها كما فعل زميله وتلميذه وشيخه الإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما في أكبر عملية تشريع للخروج على من طغى وتجبر وظلم من ولاة الأمر بالسلاح, فابتليا وامتحنا فصبرا وثبتا على مواقفهما من النظام والحكم ؟!
وهال الخليفة ولي أمر المسلمين المنصور وزلزل أركان حكمه أن يجد أعلام الشريعة يقفون منه موقفهم من الأمويين, ثم رأى أن يترضى ويصانع ليصل بهم إلى هدنة مسكنة فيستريح !!
ولم يكن الخليفة ولي أمر المسلمين يجهل أن الإمام أبا حنيفة, كان في عهد الأمويين مقاوما لظلمهم, منافحا غيورا لم يخش إلا الله, وأنه كان قد سلك سبيل التجارة ليستغني عن بيت المال والسلطان, فأصبح تاجراً ذا مال ينفقه في سبيل الله دعوة ضد الظلم وجهادا في سبيل الله, وهو صاحب حلقات العلم المشهودة, وله من الأتباع المنتشرين في الآفاق ما يضفي عليه الصيت الذائع, والذكر الحميد بين العالمين !!
وقد جربه الخليفة حين احتكم إليه مع زوجته, فرأى منه فقيها صلبا لا يتخشع ولا يلين, فقد كان المنصور في شقاق مع زوجته الحرة, وأراد أن يقترن بأخرى,فعظم الأمر عليها, ولاقته مغضبة ساخطة, فاحتج عليها بأنه لا يصدر في زواجه بالثانية عن غير أمر الله, ثم رأت أن تحتكم إلى أبي حنيفة وحده, ووافق المنصور في سهولة, ظنا منه أن الحكم الشرعي من الوضوح بحيث لا يقف أمامه أبو حنيفة ذو الرأي والقياس .
وجاء وقت المحاكمة ودقت ساعة النطق بالحكم, فقال القاضي والإمام الصادع بالحق أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه: ليتكلم أمير المؤمنين, فقال أبو جعفر: يا أبا حنيفة, كم يحل للرجل أن يتزوج من النساء فيجمع بينهن ؟
فقال: أربع . فسأله ثانيا: وهل يجوز لأحد أن يقول خلاف ذلك ؟ فقال: لا, فنظر المنصور إلى زوجته متهللا وقال: قد سمعت يا هذه !
فتدارك الإمام أبو حنيفة الموقف في ذكاء وحكمة ومجابهة: إنما أحل الله هذا لأهل العدل يا أمير المؤمنين, فمن لم يعدل أو خاف ألا يعدل, فينبغي ألا يتجاوز الواحدة, قال تعالى:{ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة }, فينبغي أن نتأدب بأدب الله ونتعظ بمواعظه .
فسكت أبو جعفر على غيظ , وطال سكوته , فاستأذن الإمام وخرج ذا هبا إلى منزله, فوجد خادم زوجة الخليفة (ولي أمر المسلمين ؟!) في انتظاره يحمل مالا وثيابا ومعه دواب وجارية, فرد ذلك في إباء العالم وعزة المجاهد وقال كلمته المشهورة: والموقف الصاع البليغ:( إنما ناضلت عن ديني, وقمت ذلك المقام لله, ولم أرد شيئا من أمور الدنيا !! والله يدعو كل داع وقائم للحق أن يقول:{ قل لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الله}.
وعادت الهدية إلى أمير المؤمنين درسا ثانيا لا يقل قوة عن الأول, ليؤكد للخليفة الموقف الحاسم, والثابت الذي لا يلين للإمام وشدة تمسكه بالحق والعدل, وقوة الموقف الرافض للظلم, فصمم الخليفة مع ذلك على أن يتقاضي عن معارضة الإمام, ويجر عليه ذيل التهاون والامتهان, ولكن قضاء الله كان أسرع, وحوادث الزمان في السياسة أكثر تسارعا ومباغتة فقد تمرد أهل الموصل من جديد على الظلم والبطش, فقرر الخليفة المنصور أن يجمع علماء العراق ليأخذ رأيهم في الأمر, فهل يستطيع أن يتجاهل رجلا في مكانة أبي حنيفة, أو يصطدم به ؟
وكان الخليفة أبوجعفر المنصور قد اشترط على أهل الموصل أن يستحل دماءهم إذا انتقضوا على حكمه, ثم هاهم وقد ثاروا وخالفوا الشروط ؟! على طريقة الثوار والربيع العربي؟!
جمع الخليفة العلماء بما فيهم الإمام أبي حنيفة ثم قال لهم: ألم يقل الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (المؤمنون عند شروطهم ), وأهل الموصل قد اشترطوا ألا يخرجوا علي, فإن فعلوا حلت دماؤهم بإقرارهم الصريح ؟ وكأنهم الأسلاف للقاعدة والدواعش الأول في العراق؟!
ما شاء الله فهذا الفقيه الأمير المنصور غفل عن أن الشرط الذي يحل الحرام أو يحرم الحلال لا ينعقد, والشروط هنا تتعدي على حرمة أعظم المحرمات: النفوس, والأعراض, والأموال ؟! وقد قال الحبيب القائد القدوة والأسوة الشفيع- صلى الله عليه وسلم-:" كل شرط خالف كتاب الله فهو باطل باطل" وقال:" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
ومع هذا فقد بدأ أحد فقهاء السلطان كما هي عادتهم في كل زمان ومكان متفيهقا في قوله: يا أمير المؤمنين يدك مبسوطة عليهم, وقولك مقبول فيهم, فإن عفوت فأنت أهل العفو, وإن عاقبت فبما يستحقون, والله الحق العدل المنتقم يقول في مثل هؤلاء:{ وإن منهم لفريقاً يلون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله} وقال:{ فويلهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } ويقول {هاأنتم جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم يكون عليهم وكيلا }, ويقول:{ ولا تكن للخائنين خصيما } وقال:{ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ، فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلا}وقال:{.. أولئك ما يأ كلون في بطونهم إلا النار..} .
وبعد ما أنهى فقيه السلطان كلامه نظر الخليفة من بين الحاضرين من الفقهاء إلى الإمام أبي حنيفة وقال: وماذا تقول أنت؟ ألسنا الآن في خلافة النبوة وأهل إيمان !
فرد عليه الإمام: إنهم اشترطوا لك ما لا يملكونه واشترطت عليهم ما ليس لك, لأن دم المسلم لا يحل, وشروط الله أحق ما توفي به .
فاضطرب أمير المؤمنين وولي أمر المسلمين ؟ وامتقع وجهه امتقاعا يدل على ما يتردد في صدره من غيظ , ثم أذن للعلماء فانصرفوا, واستبقى أبا حنيفة , فخلا بهما المكان , وصاح أبو جعفر : لقد أحرجتنا أمام الناس , فانصرف إلى بلادك , ولا تفت بما هو شين على إمامك , وخرج من المجلس مغضبا , فخرج أبو حنيفة غير هياب , ولست أدري هنا ما موقف وقول فقهاء السلطان ممن يرتزقون باسم السلفية، والوسطية والاعتدال والترشيد والطاعة لولي الأمر : ما قولهم في مواقف هذا الإمام وغيره من أئمة الدين وهل كانت منا صحتهم أو مواجهتهم لولي أمر المسلمين سرا كما يزعمون ويجهدون أنفسهم في أن ذلك هو الأصل والحكم الشرعي؟ أو كانت جهارا نهارا وفي ملأ من الناس كما كان الأئمة جميعا يفعلون إذا أقتضى الحال ذلك ؟!
ثم فكر الخليفة المنصور: هل يترك الإمام أبي حنيفة يعلن عن رأيه صريحا في جبروت الخلافة وطغيانها, وله من التأثير والأتباع والأنصار ممن يعتقدون في رأيه ويؤمنون بقوله ما يكفي لاضطراب الملك وتهديد الخلافة ؟! أم يبادر بتلمس أسباب المكيدة له , فيرتاح من خصم عنيد ؟ ثم تذكر الخليفة المنصور:أن يزيد بن هبيرة قد عرض عليه القضاء فرفض فكان نصيبه السجن والضرب بالسياط , فلماذا لا يعرض عليه القضاء كما فعل يزيد, والرجل لا محالة رافض, فإذا وقف موقفه السابق, فقد دنت ساعة القصاص .
وكان الإمام الفذ منطقيا في كل ذلك مع نفسه حين جاهر بالرفض , فالطاغية الظالم في منطق الإسلام طاغية يجب أن يحارب , سواء أكان أمويا أم عباسيا , وحكم القضاء لديه لابد أن يسير وفق هواه, وإلا فليست لدى القاضي العادل قوة ما تتم التنفيذ والإرغام , وأصر أمير المؤمنين , وأصر الإمام , وحلف أبو جعفر ليفعلن , فحلف أبو حنيفة ألا يفعل وقال: إني لا أصلح للقضاء . فقال الربيع بن يونس وزير أبي جعفر ، وتلك شنشنة الملأ الأعلى من حاشية السلطان: ( ألا ترى أمير المؤمنين يحلف ) .
فرد عليه الإمام في صراحة المؤمن وحكمة العالم: أمير المؤمنين أقدر على كفارة أيمانه منى !!
فأمر به الخليفة أبي جعفر المنصور فقيد إلى السجن, واستدعاه بعد أيام وسأله: أترغب عما نحن فيه ؟ فأجاب الإمام أبي حنيفة: أصلح الله أمير المؤمنين: لا أصلح للقضاء . وهنا صاح الخليفة منفعلا متوترا: كذبت.
ولم يخن الإمام منطقه الصائب فرد على الخليفة قائلا: لقد حكم علي أمير المؤمنين أني لا أصلح للقضاء لأنه ينسبني إلى الكذب, فإن كنت كذابا فلا أصلح للقضاء, وإن كنت صادقا فقد أخبرت أمير المؤمنين بعدم صلاحيتي للقضاء !!
فاشتاط الغرور والنزوغ بالمنصور, فأمر بالسياط أن تنهال على جسد الشيخ العالم الوقور المنافح عن الحق تشويه في محبسه الرهيب , حتى اكتملت مائة وثلاثين سوطا , فخرج عبد الرحمن بن علي بن عباس عم الخليفة وصاح به : لقد سللت على نفسك مائة ألف سيف, هذا فقيه أهل المشرق يضرب بالسياط في غير جرم, دون أن تخشى انتقام السماء !! أفلا تخشى انتقام أهل الأرض؟!
فتراجع الخليفة , وأمر بإطلاقه من السجن , وأرسل إليه ثلاثين ألف درهم , فرفضها وردها في عزة المجاهد وقناعة العالم , فقيل له : لو تصدقت بها على المحتاجين , فرد في استهانة , ومن يضمن لى أنها جمعت من طريق حلال .
وبلغ الأمر المنصور فكان الأمر عليه أشد وقعا من النصال ! ثم نزل القضاء والقدر فتناقل الناس: الأنباء بوفاة الإمام المجاهد الصادع با لحق أبي حنيفة متأثرا بجراحه , وألسنة الخلق تلهج بمناقبه وتتسابق في نقل أقواله , وإتباع مذهبه , وإلى جنات الخد بإذن الله يكون مسكنه .
لقد كان الإمام أبو حنيفة يرى أن الحقيقة العليا في هذا الدين يجب ألا يشوب صفاءها كدر.. وسواء انتصرت أو انهزمت فلا يجوز أن يتطرق إليها زيادة أو نقصان أو تحريف ..
إن من أخطر ما تواجهه القيم الإسلامية في تاريخها هو انحراف العلماء في حظائر السلاطين و انتشار الأفكار الهدامة باسم الدين وشيوع فقه تحريف الغاليين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ولقد اتفق أغلب الراسخين في العلم من الدارسين للفكر الإسلامي وأطوار الحضارة الإسلامية إن اجتياح(التتار) لبلاد الإسلام وطيها لراية الخلافة في بغداد وتقتيلها ما قتلت من السادة والرعاع.. إن ذلك المصاب أهون في وقعه وأثره من شيوع مذاهب الباطنية(الشيعة) والمرجئة بين عوام المسلمين وظنهم أن الأعمال ليست ضرورة لصحة الإيمان، وهذا ما أدركه وتفطن له وعمل على كشف خطئه وخطره شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله.
وفي العصر الحديث حين أنهض الإسلامُ جماعة الإخوان المسلمين كيما ينصفوا قيم الدين ومبادئه ويذودوا عن حماه تنضٌرتْ وجوه كثيرة، وسرت حرارة الأمل في أوصال المؤمنين، وتمشت إلى جانبها رعدة الخوف في قلوب الفساق والظالمين.. وسارت الدعوة تطوي المراحل البعيدة وهي تمر مر السحاب، وشرفها الذي تباهي به الأولين والآخرين أنها تتأثر بصاحب الرسالة العظمى- صلوات الله عليه وسلامه وتقتبس من سناه، وترفع راية دينه: وأنها تتخذه قائدا وقدوة في منهجها وعملها، وأنها تحي منا هج أتباعه من علماء وفقهاء ممن كانوا لراية الجهاد رافعين وللظلم مواجهين ولأفراد الأمة معلمين وللقائمين منهم بفريضة الدعوة والجهاد حاضنين ومسددين ومقومين بالحق والذي به يعدلون .