"الأزمة تتمثل تحديدا في أن القديم يموت وأن الحديث عاجز عن أن يولد. في هذه الفاصلة بين نظامين نشاهد الظواهر المرضية الأكثر تنوعا". أنتونيو غرامشي
ـ1ـ
لعبتْ الطريقة التي اكتملتْ بها المرحلة الانتقالية الرسمية أو المباشرة المصرية ـ والتي تُوجتْ بانتخاب الرئيس مرسي ـ دورا كبيرا في الحفاظ ـ مرحليا ـ على مستوى متميز من الصورة الإيجابية نسبيا التي تمتّعَ بها حينها عالميا ما عُرف بـ "الربيع العربي". وذلك بالرغم من كل الإشكاليات التي طفت على السطح غداة الثورات. طبعا لم يكن المراقبون يجهلون الضخامة البالغة للتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تواجهها الدولة المصرية. الإرث الثخين معروف نسبيا والسياق الطفروي الداخلي والخارجي يعلن بنفسه عما ينتظر السياسية من حيث هي فعل يَـتَــغيَّى كسرَ الحتميات الموروثة. ولكنَّ عين المراقب ـ أي مراقب ـ لم تكن تخطئ شيئا يمكن أن نسميه انتصار السياسي والمدني على "الشعوذي" ـ يحيل "الشعوذي" هنا إلى مزيج من اللاعقلانية السياسية العتيقة والكليانية البوليسية الحديثةـ، أو هكذا على الأقل بدا الأمر قبل موجة التأليب والتأليب المضاد التي سبقتْ ورافقتْ الانقلاب العسكري والثورة المضادّة أو الثورة الارتدادية.
ـ2ـ
التحالف بين بعض قوى الثورة وبعض النخب الرخوة المرتبطة بالدولة الموروثة لا يخلو في مستويات معينة من تضامن المصالح الاجتماعية. ولكنه لا يخلوا أيضا من جانب ثقافي يَصدُق عليه بنسبة كبيرة تصور غرامشي لدور الهيمنة الرمزية كأداة "مادية" تقهر تضارب المصالح وتتجاوزه. هذه النقطة الأخيرة مرعبة إلى حدّ كبير لأنها كانت في صلب الترتيبات التي تمّتْ وفقها كارثةُ العشرية الدموية في الجزائر. تكرارُ التجربة الجزائرية طفا ويطفو فعليا على السطح في مصر منذ أن سمح جزءٌ من القوى الثورية لنفسه أن يكون شبه غطاء إيديولوجي لزحف الثورة المضادة. الخطر المباشر هو أن تتحول الطاقة التي فجّرتها الثورة إلى وقود عنف. أي أن تتأجج مصادر العنف العشوائي والعنف العشوائي المضاد بما يتجاوز كل دائرة تحكمية. الخطاب المبرّر لهذا التأجّج يَصْدرُ في هذا السياق غالبا عن النخب الرخوة التي تحاول عن طريقه الاحتفاظ بهيمنتها الرمزية الحقيقية أو المتوهمة. فباسم "القيم" الديمقراطية و"التطهير" يقال للشعب إنه أخطأ في انتخاب من انتخب لأنه "لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية". وباسمها تصبح تصفية الحساب مع مَـنْهمْ خارج أفق الهيمنة الرمزية أولوية. ليس لأسباب قيمية أو مبدئية ولكن لأسباب مصلحية آنية. فالنخب الرخوة ترى مصالحها متطابقة مع مصالح الشعب ككل، ككتلة لاعضوية. الذين أوصلو الرئيس مرسي إلى السلطة يمثلون اجتماعيا في أعين النخب الرخوة الفزعة تجاههم تحالفا بين أقلية من متعلمي المدن الهامشيين وأكثرية من القادمين من الريف والضواحي النائية ممن يبحثون عن وسيلة سياسية للتعبير عن صدمتهم الأخلاقية تجاه "فساد" المدن"الحديثة". هذه الصورة النمطية، صورة الزحف الناقم للريفي أو "السوقي" الفقير الجلف على الأحياء المدينية المتخمة، ما تزال تغذي جزء كبيرا من "اللا وعي" الفئوي لعدد من الأصوات النافذة الموروثة خارج وداخل مصر.
ـ3ـ
لعلّ ما صرّح به، تمثيلا لا حصرا، الشاعر السوري أدونيس أو الصحفي المصري حسنين هيكل ـ كممثلين للنخب المرتبطة عضويا بالإيديولوجيا العسكرتارية ـ كان الأكثر تعبيرا وكاريكاتيرية وصراحة في هذا الباب. ففي محاولته لتبرير الانقلاب العسكري تحدث هيكل من جهة باشمئزاز عما يراه التصرفات الريفية والقروية للرئيس مرسي التي لا تتناسب في نظر الأول مع المراسم الطقوسية البلاطية. هيكل يرى البروتوكول العسكريتاري الموروث مقدسا لأنه بالنسبة له التعبيرُ الرمزي عن التماهي بين مصالح جزئية خاصة والمصالح العامة التي يَتوهّم ـ أو يحاول أن يتوهّم ـ أن الدولة هي المعبر عنها من خلال الهيمنة المادية والرمزية للنخب الرخوة. هذا تمامًا ما أفصحَ عنه أدونيس بطريقة أقل تحفظا : "أصبح الفردُ غيرُ « المفكّر» اختصاصاً، شريكاً للفرد المفكّر في رأيه وعمله (...) الفكرةُ الخاصّة تحوّلت إلى وعيٍ عامّ. " (أدونيس، "تحيّة إلى مصر وإلى ميادين تحريرها"،الحياة، عدد 24 يوليو 2013). أي أنهما يريان الشعب كتلةً لاعضوية، يريانه عبر جزء منه أي عبر مصالح الفئات التي خوصصتْ الدولة منذ عقود واعتقدتْ تبعا لذلك أنها تماهتْ معها فيما يُجسّد، كماهي العادة في مثل هذه السياقات، العبارة الشهيرة المنسوبة للويس الرابع عشر : "الدولة هي أنا". ولنضف هنا بالنسبة للنخب التي تجّسدها حدّيا أو أنموذجيا أصواتٌ كأدونيس وهيكل : الشعب هو أنا.
ـ4ـ
بديهي أن ما حدث ويحدث الآن في في مصر سيكون له أثر بالغ على الخريطة السياسية للعالم العربي في العقود القادمة. وسيكون له تأثير بنسبة كبيرة على كثير من دول العالم الإسلامي غير العربية في آسيا وإفريقيا بالنظر لعدة عوامل ربما يكون أهمها وجودُ نخب دينية في تلك البلدان تلقت تكوينها في مصر وتتمتع في بلدانها بنفوذ كبير. وبشكل أعم يمكن أن يقال إن ما حدث ويحدث مصْريًا يتعلقُ بثورة ارتدادية لها انعكاساتها النسبية الداخلية والخارجية لاسيما على الخريطة الذهنية للتمثل السياسي لما عرف بالربيع العربي. وطبيعي أن الثقافة السياسية التي ستنجر عما يحدث في مصر لن تكون فقط نتاجَ استقرائه مصريا أو التفاعل الداخلي المصري معه ولكنها ستكون بنفس المستوى، وربما أكثر، نتاجَ استقراءاته والتفاعل معه إقليميا ودوليا. وهي استقراءات وتفاعلات مهما تعدّدتْ تلحُّ عليها وستلحُّ عليها أكثر في المستقبل القريب فكرةٌ مشتركة يمكن تلخيصها تبسيطيا بأن مصر ومعها الإخوان وأجزاء واسعة من التيارات السياسية في العالم العربي والإسلامي قد وُفِّقتْ بعد أكثر من نصف قرن من التفكّك الذاتي في إيجاد فرصة تبدو استثنائية للتصالح مع التاريخ. وأنها ـ على الأقلّ على الصعيد المصري ـ قَـيْـدَ تضييع هذه الفرصة إن لم تكن قد ضيعتها بالماضي. وأنّ الانقلاب العسكري ـ منطلقا واستمرارا ـ ليس إلا محاولة، واعية بذاتها أو غير واعية، لتتويج مسلسل إضاعة الفرصة.