هناك بعض المواضيع والقضايا الوطنية الكبرى التي يصعب على المرء أن يلتزم الحياد والصمت حيالها، ولا شك أن مشاركة الجيش الموريتاني في عمليات عسكرية خارجية تأتي على رأس هذه القضايا الكبرى، وأنا هنا لا أشكك في قدرات الجيش الموريتاني وكفاءته، لكن لهذا الجيش مهام دستورية وقانونية تتمثل في الدفاع عن البلاد ضد الأخطار والتهديدات الأمنية، ولا يمكن أن يتم إرساله للقتال خارج الحدود بقرار ارتجالي غير مدروس،خاصة إذا كان الدافع لاتخاذ هذا القرار هو الحصول على بعض التمويلات التي كثيرا ما حصلت عليها موريتانيا ولم تنعكس إيجابا على حياة المواطنين، بل إنها غذت الفساد المالي والإداري المستشري في البلاد.
وإذا كان من الممكنأن نجادل في وجاهة وشرعية التدخل السعودي في اليمن (عاصفة الحزم)، وأن نقدم الأسباب والمبررات للدفاع عنه ليس هنا مجال الخوض فيها، لكنمشاركة موريتانيا في المعارك الدائرة في اليمن تفتقر إلى ما يبررها. فموريتانيا البعيدة جغرافيا عن منطقة الخليج العربي ليست طرفا في معاهدة دفاع مشترك مع السعودية ولا يوجد تعاون عسكري من أي نوع بين البلدين، إضافةإلى أن لدى موريتانيا من المشاكل الداخلية ما يحتم على النظام الحاكم ان يتفرغ لمواجهته بدل سياسة "الهروب إلى الأمام"ومحاولة الحصول على التمويل بطرق "غير أخلاقية" يضحى فيها بجنودنا في حرب لا تشكل أولوية لبلادنا.ويجب التذكير هنا بأن مهمة هذه القوات لن تكون مهمة حفظ سلام،خلافالما يدعيه بعض المتزلفين للنظام الذين اعتادواالتزوير وقلب الحقائق، بل ستشارك هذه القوات في مهام قتالية، لأنها ذاهبة إلى ساحة حرب، وستكون جزءا من قوات أحد طرفي الحرب، مما يعني أنها ستكون مستهدفة بنيران الطرف المعادي، وهذا يختلف تماما عن قوات حفظ السلام التي تعرف بأصحاب القبعات الزرق والتي يتم إرسالها تحت مظلة الأمم المتحدة لمراقبة وقف إطلاق النار بين أطراف النزاع دون أن تكون لها مهام قتالية، وهي موجودة الآن في عدد من البلدان الإفريقية مثل ساحل العاج ومالي...
وليس من قبيل المبالغة أو الشطط في استعمال المفاهيم، تشبيه إرسال جنود موريتانيين للقتال في اليمن (إن صح ما نشر في وسائل الإعلام عن اتفاق في هذا الصدد)،بما يعرف في أدبيات الدراسات الدولية ب"الارتزاق"le mercenariat ، ويعني تقديم خدمات قتالية مقابل مبالغ مالية، فالمرتزق ليس مدفوعا إلى القتال دفاعا عن مبدإ أو هدف استراتيجي. بل الدافع الوحيد لديه هو الحصول على المال، وهذا ينطبق، مع الاسف الشديد،على هذه العملية التي يبدو أن الرئيس يحضر لها، والتي قيل إنها كانت على جدول أعماله خلال زيارته للسعودية. والحقيقة أن هذه ليست أول مرة يستخدم فيها الرئيس الموريتاني ولد عبد العزيز جنودا موريتانيين في معارك الآخرين. فهناك سابقة خطيرة تدل على استهتار هذا النظام بحياة الجنود الموريتانيين وذلك في عملية لصالح فرنسا كان الهدف منها تحرير الرهينة الفرنسي ميشال جرمانو. وحاول النظام الموريتاني حينها أن يعتم على الأمر، لكن الصحافة الفرنسية كشفت ملابسات وأهداف تلك العملية.
ومن الملاحظ أنالسياسات الخارجية للنظام الحاكم في موريتانيا قائمة على البحث عن المنفعة المالية المباشرة وتفتقر إلى الحد الأدنى من التخطيط الاستراتيجي ومن فهم طبيعة العلاقات بين الدول التي يجب ان تقوم على المصالح الوطنية المشتركة التي لا يمكن أن تتحقق إلا برؤية مستقبلية بعيدة المدى، لأن مشاريع التعاون الكبرى يتطلب إنجازها فترة زمنية غير قصيرة. وبسبب غياب هذه الرؤية الاستراتيجية اتسمت علاقات موريتانيا الخارجية منذ وصول الرئيس الحالي إلى السلطة بالتقلب وبالأزمات مع دول الجوار.
أماالوجه الآخر لفشل النظام الحاكم فيتجلى في الوضع الداخليالذي يزداد سوءا.فالشعب الموريتاني يعد من أفقر شعوب العالم،ويعاني من اختلالات اجتماعية كبرى بسبب الحرمان والتهميش لفئات عريضة من المجتمع، ومصادرة الدولة وجعلها ملكا خاصا، والتضييق على المعارضين للنظام ومنعهم من الاستفادة من حقوقهم في تولي المناصب الإدارية التي أصبح معيار التعيين الوحيد فيها يعتمد على المحاباة والولاء والتزلف وعلاقات القرابة...، مما جعل مسؤولي الإدارة الموريتانية في ظل النظام الحالي من أقل المسؤولين كفاءة في التاريخ الإداري الموريتاني منذ الاستقلال.
ومن اسباب تردي أوضاع البلاد كذلك أن الرئيس وحاشيته لا يرون في الحكم سوى وسيلة لزيادة ثرواتهم على حساب الشعب الموريتاني المسكين، فأصبحنا نسمع عن شراء عقارات في الخارج،وتحويل المنشآت العمومية (مدرسة الشرطة- الملعب الأولمبي...) إلى ملكيات خاصة،إضافة إلى فضائح مالية ورشاوى كان آخرها ما كشفته صحيفة لوموند الفرنسية من اتهامات بالفساد في تسيير شركة كينروستازيازت، تطال المحيط القريب من الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وليس هذا، بطبيعة الحال، سوى الجزء الظاهر من جبل الفساد في نظام سياسي تغيب فيه بشكل كامل الشفافية والمحاسبة والمؤسسات.
إن المشاركة في الحرب الدائرة في اليمن، بغض النظر عن جانبهاغير الأخلاقي ( القتال مقابل المال)، لن تخفف من وطأة المشاكل الاقتصادية لموريتانيا، لأن ما ينقص موريتانيا ليس الموارد المالية، بل توظيف هذه الموارد بطريقة تمكن من توزيع الثروة بعدالة، بحيث يستفيد منها الشعب الموريتاني بأكمله، وهذا هو التحدي الكبير وهو جوهر التنمية. فقد اثبتت التجارب أن لا خير في نمو اقتصادي لا تصحبه تنمية بالمعنى الشامل والعادل.
باحث في علم الاجتماع السياسي
البريد الإلكتروني: hassansaid073@gmail.com