أكتب هذه السطور صباح اليوم في اسطنبول ساعات قبل وداعها. في تركيا وقبْلها في ثلاثة دول إسلامية أخرى (المغرب، وموريتانيا، والسنغال) بعيدة نسبيا ـ في مستويْ الجغرافيا والتاريخ ـ عن آسيا الصغرى شاركتُ خلال الأسابيع الأربعة الماضية في عدّة لقاءات ونقاشات. السؤال الذي بدأ طرِحْه هنا في اسطمبول منذ أكثر من أربعة قرون ( أي منذ بداية تراجع المدّ العثماني في أوربا الوسطى) لم يزددْ ـ على مستوى ذاتية النخب ـ إلا إلحاحا : كيف يمكن وقف التقهقر أمام التحدّي الذي يفرضُه الآخر؟ أو بالصيغة المحدّثة مع أرسلان (1939) : لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم ؟
لا أقصد هنا أنّ هذا السؤال ازدادَ ـ أولمْ يزددْ ـ وجاهةَ من منظور الشروط الموضوعية. ولكنْ أقصد أنّ ما سمعتُه خلال هذه النقاشات يكْشف لي من جديد أن شرائح واسعة من نخب العالم الاسلامي على اختلاف أوضاع بلدانها وثقافاتها ما تزال في "ذاتياتها العامة" تحتَ صدْمَة هذا السؤال. وما تزال تكرّر صياغتَه بطرق مختلفة.
ـ 2ـ
طبعا لا يعني هذا أن بلدان العالم الاسلامي تمثّل نوعا من المرضى التوهميين (باستعارة عنوان مسرحية موليير الشهيرة). ولكنه يعني ـ في الاحتمال الأقوى ـ أن أجزاء واسعة من نخب العالم الإسلامي تعيش حالة من الحيرة السلبية المتضاعفة أمام ما آلت الأوضاع في عدد من بلدان هذا العالم، من شمال نيجيريا إلى أفعانستان مرورا بالعالم العربي. ويعني بالتالي أن استعادتها للأسئلة الأولى تحتاج هي بدورها إلى مساءلة تتجاوز منطوق المفردات المستخدمة. فهذه الحيرة السلبية تتجلّى محايثة لسؤال مركزي عن الدور الفعلي أو الأدوار الفعلية في الممارسة السياسية والاقتصادية لـ"منتجي الأفكار" ـ الرائجة منها والمبعدة ـ داخل هذه البلدان، وعن طبيعة وعي المنتجين أنفسهم بهذا الدور. فهي حيرة تطرح بشكل عام سؤال الوعي النقدي في المجتمعات الاسلامية.
ـ3ـ
في عدد من اللقاءات استمعتُ، خصوصا فيما يتعلّق بـ"الربيع العربي"، إلى معلومات مهمّة وتحليلات جادّة. ولكني أيضا صدمتُ بتحليلات أخرى مغرقة في الاختزالية وفي نظرية المؤامرة وفي تفادي تحليل العوامل الداخلية الاجتماعية والاقتصادية إلخ. وسمعتُ أيضا تحليلات مقابلة مُغرقة في تجاهل الخريطة المعقّدة للصراعات الدولية، أي في تجاهل العوامل الجيوستراتيحية الكثيفةِ التركيب وانعكاساتها المتصاعدة خصوصا على الدول الصغيرة ومتوسطة الحجم. تبدو نخبُ العالم العربي بشكل خاصّ ـ أوعددٌ من فئاتها النافذة بعبارة أدقّ ـ الأكثرَ ميلًا إلى هذه الاختزالية. بل واستمعتُ إلى مداخلات تُفترض فيها الجدّية بحكم مواقع ومسارات أصحابها بدتْ ـ حَرْفيا ـ أقربَ إلى التفكير السحري. فمشكلات الاجتماع السياسي والقضايا المؤسسية المركّبة يتمّ أحيانا كثيرة اختزالها في انطباعاتٍ إنشائيةٍ (هجائية أو مديحية) عن هذا الحزب أو التيار أو ذلك بلْ وعن هذا الفرد أو ذلك. الأحْزبة والشخْصنة وصلتا ذروتها حين تحدّث بعضُ "الرسميين" المصريين عن الأوضاع في بلدهم. وقد لا نبالغ كثيرا إذا قلنا إنّ عددا معتبرا من الأصوات المسموعة أو النافذة في العالم العربي ـ من "اليسار" و"اليمين" معا، إنْ جاز مثلُ هذا التصنيف ـ أصبحَ يمارس ما يشبه إضرابا جَمَاعيا عن التفكير.
ـ4ـ
إحدى النقاط التي ترددتْ عدّة مرات في لقاءات السنغال وردتْ مثلا على لسان الدكتور "بايدلاي كان" عميد جامعة غاستون بيرجي في سين لوي. كان يحدّثني بحماس عن نموذج التعايش الديني في البلد : عن عمق التدين في مجتمع أكثرُ من 90 بالمائة من سكانه مسلمون من جهة وعن قدرة السنغاليين على التعايش مع أقلياتهم الدينية. ثمّ أضاف بنبرة مغايرة أنّ بلده رغم ذلك غير محصّن من الصراعات السائدة في العالم الإسلامي. خصوصا أنّ نسبة السنغاليين المكوّنين في بعض الدول العربية تزداد عددا وهم بحسبه يحملون تصورات مغايرة عن التعايش. وهي ملاحظة سمعتُ في تركيا مرات ما يشبهها رغم اختلاف وتباعد البلدين.
لاشكّ أن الصراعات الأيديولوجية القائمة حاليا في البلدين (أساسا قضية العربية في السنغال، والتموقع الجيوسياسي لتركيا) لها دورها في ظهور مثل هذه الملاحظة. ولكن لا شكَّ أيضا أنّ "العقل السياسي" الذي "ينتجه" العالم العربي راهنيا أصبح محلّ تخوف متزايد في بقية العالم الاسلامي. وأصبح بمستوى ما رمزا للإشكاليات التنموية التي تعاني منها الدول العربية مقابل النجاح النسبي لتجارب دول إسلامية أخرى كتركيا.
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل