عندما خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان واستخلفه في الأرض وسخّـر له الكون وأبدع له الطبيعة؛ جعل من شروط ذلك الاستخلاف والتسخير استشعاره للأمانة العظمى التي حمّـله الله إياها؛ وربط استمرار مصالحه في الكون بمدى محافظته على حماية موارده من الانقراض أو التلوث؛
ومنع الاستغلال المفرط لموارد الطبيعة حتى يحافظ على استمرار التوازن بين استهلاك تلك الموارد وتجددها؛ بل إن الإسلام حرص على تكليف الإنسان ودعوته لبذل جهوده واستفراغ طاقاته في إعمار الأرض حتى في أصعب اللحظات وأدق الظروف، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة (نخلة صغيرة) فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها" أخرجه الإمام أحمد؛ وقد حثّ الإسلام على الحرث والتشجير نشراً للخضرة والخير ومكافحة للتصحر ومنعا للتلوث وحماية للإنسان من الآثار السلبية لتخريب البيئة، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة" رواه البخاري ، وعند مسلم:" ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة".
والبيئة التي هي المجال الذي يمارس فيه الإنسان حياته وأنشطته المختلفة؛ مهددة منذ عشرات السنين بفعل الاستهلاك المفرط والعبث بخصائص النظام البيئي وتدمير وإزالة الغطاء النباتي واستنزاف الحياة البرية وتلويث الماء والهواء بفعل الإنبعاثات الناجمة عن الكميات الهائلة من الوقود التي تحرقها المنشآت الصناعية ؛ ومن ثم تتالت موجات الجفاف ورافق ذلك انجراف وتعرية في التربة؛ واتسعت رقعة المناطق الصحراوية بفعل حركة الكثبان الرملية؛ حيث انعكس ذلك على حياة الإنسان بفعل الفقر والنقص الحاد في الغذاء؛ فضلا عن الآثار المدمرة للحروب والكوارث الطبيعية؛ كل تلك العوامل جعلت الاهتمام بحماية البيئة والتصدي للتحديات البيئية في أعلى سلم الأولويات العالمية؛ حيث عقدت الأمم المتحدة عشرات القمم والمؤتمرات ووقعت عددا هائلا من الاتفاقيات في مجالات حماية البيئة. ويوجد الآن في الغرب ما يناهز 130 ألف هيئة أو مؤسسة عاملة في مجال البيئة؛ بل إن بعض الدول أصبحت بها أحزاب للبيئة خاضت الانتخابات النيابية والبلدية ؛ وقد تم تأسيس شبكات عالمية لحماية البيئة تضم آلاف المنظمات غير الحكومية؛ بحيث باتت تمتلك من الضغط والتأثير المتزايد ما خوّلها حمل الحكومات على إصدار التشريعات ومراقبة النشاطات التجارية والصناعية وترشيد استخدام الموارد الطبيعية.
وفي بلادنا، بدأ الاهتمام بالطبيعة مبكرا إلا أن هذا الاهتمام تراجع بشكل لافت خلال العقود الأخيرة (منذ العاشر من يوليو 1978) وأصبح محدودا؛ بل وغائبا في معظم الأحيان، بحيث عاث الإنسان فسادا في الطبيعة؛ وأحرق الأخضر واليابس؛ وتحوّلت معظم المناطق الغابوية والرعوية إلى مناطق زراعية أو سكنية أو صحراوية؛ وانقرضت مئات آلاف الحيوانات البرية التي كانت تزخر بها البلاد بسبب بنادق الحكام والولاة والوجهاء وربما حراس الغابات أنفسهم؛ فكان من يفترض فيهم حماية الحياة البرية هم ألدّ خصومها وأشدّ أعدائها؛ كما يقول المثل: "حاميها حراميها"!
وخلال السنوات الأخيرة؛ وفي تطور لافت؛ تمكن قطاع البيئة في بلادنا من إحداث طفرة على مستوى نشر الثقافة البيئية وإنارة الرأي العام حول المخاطر البيئية التي تواجهها البلاد بفعل التعديات والممارسات الخاطئة؛ وهكذا أضحت حماية البيئة ومكافحة التلوث على رأس أولويات السياسة العامة للدولة؛ حيث تم سنّ التشريعات اللازمة لوضع أسس وقواعد لحماية البيئة والحفاظ على التنوع الحيوي ومنع استنزاف الموارد الطبيعية؛ وشاركت موريتانيا بشكل فاعل في العديد من المؤتمرات واللقاءات الدولية؛ وتصدرت دول محيطها الإقليمي في المبادرات الإيجابية الرامية إلى حماية النظام البيئي واتخذت التدابير الضرورية وعبأت طاقاتها للمشاركة الدولية النشطة ونظمت العديد من الورشات والملتقيات الوطنية واحتفلت بجميع المناسبات البيئية ومن أبرزها اليوم العالمي للبيئة واليوم العالمي لمكافحة التصحر والأسبوع الوطني للشجرة، حيث صاحب الاحتفال بهذه المناسبات العديد من الفعاليات والأنشطة التثقيفية وتوزيع النشرات وإلقاء المحاضرات لتنمية الوعي البيئي لدى المواطنين.
ولم يعد الاهتمام بالبيئة قاصرا على مكافحة التصحر وتشجير بعض المناطق وشق خطوط وحواجز لمنع الحرائق في مناطق المراعي؛ على أهمية ذلك؛ بل تجاوز الأمر في عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز - ومن خلال الإدارة الحالية – إلى فرض الرقابة البيئية على مؤسسات وشركات التنقيب والاستغلال؛ سواء منها تلك العاملة في البر (استغلال الحديد والنحاس والذهب) أو البحر (المؤسسات الوطنية والدولية العاملة في مجال الصيد)؛ حيث تم إلزامها باحترام التشريعات الوطنية والدولية في مجال حماية البيئة ومكافحة التلوث؛ بل إن بعض هذه المؤسسات اضطرت لتشكيل مصالح وإدارات داخلية لمراقبة مدى الالتزام بالمعايير الدولية في مجال البيئة.
ويأتي اختيار موريتانيا لاحتضان مقر الوكالة الإفريقية للسور الأخضر الكبير وانعقاد أشغال الدورة الثالثة لقمتها؛ ليتوّج ذلك التوجه الرائد للسياسات الوطنية في عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز؛ وليبرهن – فضلا عن ذلك - على النجاحات التي حققتها البرامج والأجندات البيئية الراهنة؛ بمباركة وتوجيهات معالي الوزير الأول السيد يحيى ولد حدمين؛ وفي ظل القيادة الحكيمة لوزير البيئة الحالي السيد آميدي كمرا؛ وذلك من خلال عمله مع فريق متخصص من الخبراء الأكفاء؛ حيث تحوّلت البلاد إلى ورشة عمل وقبلة للناشطين الدوليين وأصحاب الاهتمامات البيئية؛ وأصبح كل مواطن مهما كان قصيا يستشعر أهمية المحافظة على الموارد الطبيعية.
ويبلغ عدد البلدان المنخرطة في الوكالة الإفريقية للسور الأخضر الكبير أحد عشر بلدا، تنفذ الوكالة فيها حاليا 12 مشروعا رئيسيا، وذلك في إطار خطة خمسية من 2011 - 2015.
وستنفذ هذه المشاريع في مناطق جافة؛ تناهز مساحتها آلاف الكيلومترات؛ وتتجسد تلك المشاريع من خلال إقامة نشاطات واسعة تشمل عمليات التشجير والزراعة والرعي لتعزيز نسبة الاستفادة من الخدمات الأساسية وخلق أنشطة مدرة للدخل وجالبة للثروة وتوفير مداخيل إضافية للفئات الهشة.
وتهدف الوكالة – من ضمن أولويات برنامج عملها الحالي - إلى إنشاء حواجز من الغطاء النباتي للحد من زحف الرمال والتصحر في الدول الأعضاء، وذلك من خلال إنشاء سور أخضر بطول 7000 كلم وعرض 15 كلم تمتد من موريتانيا إلى جيبوتي؛ ضمن مناطق صحراوية تتراوح فيها معدلات الهطول من 100 إلى 400 ملم سنويا.
وعلى الرغم من الإنجازات الشاهدة التي ذكرنا؛ فإنه لا تزال هناك بعض العثرات والنواقص؛ ولا تزال بعض النصوص البيئية بحاجة إلى التفعيل في مجتمع حديث الاهتمام بالبيئة؛ سيما تلك النصوص المتعلقة بمكافحة التلوث الناجم عن عمليات استغلال المناجم؛ هذا فضلا عن ضرورة مضاعفة الرقابة على المنافذ الحدودية لمنع استيراد واستعمال الأغلفة البلاستيكية المرنة المحرمة بالمرسوم 157/2012.
ووجود تلك النواقص لا يقدح في المجهود الوطني لحماية البيئة وليس عيبا ولا غريبا؛ إذ أنه من المعلوم لدى الجميع بأنه حتى في الدول الصناعية المتقدمة؛ والتي سبقت موريتانيا في سن التشريعات البيئية وأنشأت هيئات بميزانيات ضخمة لحماية البيئة لا تزال المعاناة من ظاهرة التلوث تتضاعف؛ فثاني أكسيد الكربون المنبعث عن الكميات الهائلة من الوقود التي تستهلكها المصانع ومحطات الوقود ومحركات السيارات، والتي ينتج عنها كذلك ثاني أكسيد الكبريت وأول أكسيد الكربون الضار بالجهاز التنفسي للإنسان والحيوان، وكذا مركبات الزرنيخ والفسفور، والكبريت والحديد ، والزئبق، ، والزنك وبعض المبيدات، وبعض مواد تصفيف الشعر أو حتى تلك الخاصة بإزالة روائح العرق، ومخلفات ناقلات البترول ومياه الصرف الصحي؛ كل هذا يؤدي في النهاية إلى حدوث مشاكل وربما كوارث بيئية كبرى بحيث لا يوجد أي بلد في العالم مهما وصلت احتياطاته البيئية في منأى عنها، ولكن المهم هو أن تكون هناك إرادة حقيقية وفاعلة للرفع من مستوى القطاع البيئي وزيادة الاهتمام بحماية البيئة ونشر الوعي البيئي بين المواطنين ورصد الموارد والخبرات اللازمة لحماية النظام البيئي وتحقيق التنمية المستدامة؛ وهذا هو الطريق الذي سلكته السياسات البيئية في بلادنا خلال السنوات القليلة الفارطة؛ وقد وفقت في تحقيق أهدافها وتمكنت من منافسة بلدان كبرى لها تجربتها الرائدة في المجال البيئي.