"من تعرّض للغَـرق للمرّة الثانية لايجوز له أن يتّهم نبتون" مثلٌ لاتيني
ـ1ـ
كان ذلك بمبنى إذاعة فرنسا في باريس سنة 2004. دار اللقاء حول الانتخابات الأمريكية التي تَـنافسَ فيها حينها جورش بوش وجون كيري. أخذ موضوع تدمير العراق جزءا معتبرا من النقاش. آثار التعبئة في فرنسا ضد الحرب ما تزال في تلك الفترة ملموسة إلى حدّ ما. والنتائج المأساوية لتدمير العراق بدأتْ تظهر. إلى ذلك أصبح واضحا أن العراق لا يمتلك أسلحة دمار شامل وبالتالي أن الذريعة التي استخدمتْها الولايات المتحدة لتدميره لم تكن إلا ذريعة. انتقل الحوارُ تلقائيا إلى النووي الإيراني. الكاتب والصحفي الامريكي بول فرنكلين الكسندر هو المتحدث الرئيسي حيث بدا مهتما بالترويج لكتابه "المترشح : خلف الركض المتميز لجون كيري نحو البيت الأبيض " الذي كان قد صدر للتو. أظهر الكسندر قدرا من الحماس وهو يدافع عن أنّ قدر جون كيري هو الفشل في الوصول للرئاسة الامريكية. والسبب بالنسبة له بسيط : جورج بوش رئيس حرب ورئيس الحرب لا يمكن تغييره خلال الحرب.
حينها كانت هناك أصوات متزايدة خصوصا في بعض الأنظمة العربية تطالب إدارة جورش بوش بما تسميه بـ"إكمال العمل"، أي تدمير إيران بعد العراق.
ـ2ـ
أخذ الحماس عددا من الصحافيين الفرنسيين وذكّروا زميلَهم الامريكي بالملاحظات البديهية المعروفة : الحديث أصلا عن النووي العراقي أو الإيراني دليل على أن العلاقات الدولية تُسلّم بأنْ لا معنى فيها للعدالة والمساواة. فالدول الكبرى التي تطالب بلدانا أقلّ حجما بالتخلي عن برامجها العسكرية غير التقليدية تحتفظ لنفسها بأكبر ترسانات الدمار الشامل. والولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي استخدمتْ رسميا القنبلة الذرية (هيروشيما وناغازاكي). الدول الكبرى تثبت بهذا المعنى أنها لا تؤمن إلا بالقوة. حاول بول ألكسندر أن يدافع عن موقفه بأنّ منطقة الشرق منطقة خطيرة وبان الولايات والقوى الكبرى ملزمة بمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل فيها. ورغم أني لم أكن مقتنعا بجدوى نقاش يقول فيه كلُّ مشارك ما هو متوقع أن يقول، فقد ذكّرتُ الكاتب الأمريكي بأنه من العسير أخذ هذه الحجة على محمل الجدّ فالولايات المتحدة والدول الكبرى ساعدتْ دولا معروفة في الشرق الأدنى والأوسط على إنشاء وتطوير ترسانات دمار شامل. فردّ بنوع من الانفعال : تلك دول صديقة.
إذا أضفنا إلى هذه الإجابة "التبسيطية" أن مفهوم الصداقة بالغ النسبية في العلاقات الدولية نكون قد اقتربنا أكثر من استكمال العناصر الاساسية للمعادلة.
ـ3ـ
ردود الفعل الحالية لبعض الأنظمة العربية أو لبعض الناطقين صراحة أو ضمنا باسمها على الاتفاق الخاص بالنووي الإيراني تدلّ على أنها لم تستفد كثيرا من درْس تدمير العراق. أو أنها على الأقلّ لم تراجع فلسفتها الجيوستراتيجية إنِ وُجدتْ في ظل تعقيد المشهد الدولي وارتباطه بمتغيرات متزايدة غير قابلة للاختزال إلى عوامل تبسيطية بدائية كالعلاقات العرقية والطائفية و"الثأر" القبلي إلخ. وبالرغم من أن الأطراف العربية المتخوفة من الاتفاق حول النووي الإيراني تدين وجوديا لتحالفها مع الولايات المتحدة وبالرغم من أن تحالفها هذا ـ أيا تكن الهزات الحالية ـ ليس مرشحا للإلغاء في الأمد المنظور فإن أجهزتها الدعائية لا تجد حرجا في توجيه النقد لاتفاق فيينا على اعتباره ثمرة مؤامرة غربية إيرانية لتدمير "العرب". من هم العرب؟ يكفي إجابة على هذا السؤال أن نتذكّر ما هي الدول التي سخرتْ إمكانياتها وأراضيها لتدمير العراق وأعلنتْ لاحقا بحماسٍ صبياني استعدادها لتوفير نفس الامكانيات والأراضي لتدمير إيران أو تدمير منشئاتها النووية. وهو ما ظلّتْ تعرضُه مثلا على الولايات المتحدة وعلى اسرائيل.
ـ4ـ
والسؤال الطائفي؟ هل تغذّي السياسة الرسمية الإيرانية الحالية وبشكلٍ قصْدي الاحتقانَ الطائفي المتصاعدَ في أجزاء واسعة من العالم الاسلامي ولا سيما في المشرق العربي المهيأ اجتماعيا لمثْل هذا الاحتقان؟ نعم من العسير نفي هذا المعطي الذي تثْبته وقائع كثيرة.
والأنظمة العربية المشرقية هل تمارس نفس السياسة؟ نعم بداهة أيضا وبمستوى أكثر ظلامية وصفاقة بكثير ولكنها "ترى القذى الذي في عين"الآخر، "أما الخشبة التي في عينها هي فلا تفطن لها". هنالك دول عربية اتخذتْ عقودا قبل الثورة الإيرانية من التحريض الطائفي عقيدة رسمية وشعبية. والأخطر أنها كدول متعددة الطوائف تعمل بهذا التحريض على تفكّكها الذاتي. وأجزاء واسعة من شعوبها لا تشعر أنها خارج "المواطنة" ـ إن جاز أصلا الحديث عن المواطنة في هذاالسياق ـ بل إنها تحسّ أنها مستهدفَة مباشرة على أساس طائفي من أنظمةِ دولها بدءا من المقررات المدرسية وصولا إلى خطاب المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية إلخ.
مسؤولية النظام الإيراني وجيرانه "العرب" عن تصاعد المدّ الطائفي الدموي الذي أخذوا جميعا يصدّرونه إلى عموم البلدان الإسلامية مسؤولية ضخمة. فكلّ منهم يحتاج إلى أن يتأمّل كثيرا في الخشبة التي في عينه قبل أن يوجّه التهم لجيرانه.
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل