تابعت أمس نقاشا في الجمعية الوطنية تحول فيما بعد إلى موضوع قديم- جديد، هو: إشكالية تغييب اللغة الرسمية للبلد وهيمنة لغة الدولة الفرنسية بدلا منها على كل نواحي الحياة، بدءا بالتخاطب البيني، مرورا بفاتورة الماء والكهرباء وانتهاء بالمراسلات الإدارية والقرارات الرسمية والاتفاقات الدولية
.. كل هذا حصل بحجة "قصور" اللغة العربية في مقابل "عصرنة" اللغة الفرنسية، واعتبار تكريس اللغة الرسمية لغة للعمل، هو إقصاء لأقلية بالبلد وامتياز لأكثرية، سيمنحها فرصا على حساب تلك الأقلية، دون التفات إلى ما هو سائد في جميع بلدان العالم وإلى خطورة إقصاء الأغلبية، التي لجأت من قبل إلى اللاتمدرس، كي تحمي لغتها وهويتها، الشيء الذي دفع بالمستعمر إلى الاستعانة بطاقم من مستعمراته الأخرى، من أجل تسيير المرافق العمومية في صحراء موريتانيا المترامية، الشيء الذي وفر له بنية عسكرية وإدارية مكتملة، واجه بها رفضا شبه شامل من طرف قبائل استمرأت البداوة وألفت شظف العيش والترحال، لذا اضطر المستعمر إلى إدارة الإقليم الموريتاني من مدينة " سينلوي" السنغالية، ومنها نقلت الإدارات بقضها وقضيضها إلى مرافق الدولة الموريتانية الوليدة، التي تحولت من فكرة جنينية في خيال المستعمر إلى واقع تم تشييده فوق كثبان من الرمال المتحركة، بدءا بالعاصمة التي فاقت ساكنتها من الذئاب والزواحف في البدء عدد قاطنيها من البشر.
فكانت ولادة قيصرية ومتعثرة وقلقة، دفعت السلطة القائمة إلى العمل من أجل التأثير على المطالب الشمالية من خلال إحداث حقائق سكانية على الأرض، تشوش على تلك المطالب "الإستعمارية"، لكن أيضا من خلال الاستعانة بأياد استعمارية غمست أنفها في كل صغيرة وكبيرة.. فظهرت "عقيدة" الخطر الشمالي وضرورات الاندماج في الجنوب، لمواجهة ذاك التهديد الوجودي.
وقد اعتمدت لهذا الغرض مجموعة من الآليات للتنفيذ، منها الجزم بأن اللغة الفرنسية هي "لغة الانفتاح" الوحيدة بين مكونات شعب ما كان قد سمع بها أصلا قبل قدوم المستعمر، وتبرير ذلك بكوننا لسنا دولة عربية أصلا وبالتالي فلا محل لهذه اللغة من الإعراب إلا في الكتاتيب والمساجد، لمن شاء..أما سوق العمل، فهو محرم على من لا يجيد لغة فولتير الفرنسي(كان ممنوعا على حاملي الشهادات بالعربية أن يلجوا الإدارة والإدماج في الوظيفة العمومية للدولة الموريتانية).
كما وصفت الفرنسية حينها بأنها "لغة انفتاح" على العالم الخارجي، دون تدقيق في مصداقية هذا الشعار.
ونعتت العربية وأهلها بالتخلف والقصور والجمود والتعصب، في مقابل "المزايا" المحصورة في لغة المستعمر، دون غيرها من اللغات الغربية الأخرى.
فتم ابتلاع الطعم دون تمحيص واعتبر حقيقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها داخل الأوساط ذات المصلحة الشخصية والمكاسب الوظيفية، اللذين توفرهما ميزة تعلم الفرنسية في ظل جهل ومقاطعة غالبية الشعب لها.
ومع بداية السبعينات وما رافقها من هجرة قسرية - بفعل الجفاف- من الريف إلى المدينة وولوج غالبية أبناء الشعب إلى المدرسة الحديثة.. عندها شعر أصحاب المزايا المكتسبة بالتهديد واعتبروها حرب إقصاء وتهميش، دون الالتفات إلى حقيقة دخول موجات بشرية جديدة- ظلت مهمشة داخل سوق العمل وفضاء المنافسة- إلى الحلبة..فكان ما كان من أحداث أليمة، حركتها لغة الإقصاء وتبني اللامعقول.
واليوم وبعد تخريج أجيال من مدارس الدولة وغيرها لا تعرف غير اللغة العربية- وبقرار رسمي هذه المرة أيضا - حصل ما لم يكن في الحسبان:
موجات من الشباب، حاملة للشهادات ومتنوعة في الاختصاصات، ليس متاحا لها من الفرص، سوى بيع الماء في الحنفيات العمومية (وفي هذا رمزية لا تخطئها العين)، أو الوقوف في شمس حارقة، طيلة اليوم، بحثا عن غريب أو وافد يرغب في تصريف ما يحمله من نقود.. وفي أحسن الأحوال الحصول على وظائف هامشية يأنف منها "المحظوظون" ولا تلبي أبسط طموح شباب باحث عن فرص تخرجه من وضعه المأزوم.
أصوات من الماضي
برز خلال النقاش البرلماني صوتين ظلا نشازا طيلة الجلسة، أرجعانا إلى ذكريات الماضي، الذي كان فيه الموريتاني يحارب هويته، حفاظا على "امتيازاته" ويتنكر للغته لصالح هوية أخري، يعترف أنها فرضت عليه ولم تك من اختياره.. جعلته يحتقر ذاته ويعتقد أن الفرنسية لغة تتسم بالكمال والخصوبة، بفعل عقدة النقص التي ما فتئ المستعمر الفرنسي يرسخها لديه، كي يبقى هو السيد والآخرين عبيدا.
عبودية استمرأها البعض ورأى فيها "مكسبا" لا يعوض، ما دامت توفر تسلقا في الوظيفة وأداة للظفر بالمغانم، الشيء الذي رسخه الإصرار على فرنسة الإدارة غير المبرر والتنكر الرسمي للدستور ولخيارات غالبية الشعب.
ولعل أهم خلاصة وصل إليها كثيرون اليوم، تتمثل في أن الإخوة الزنوج، ليسوا أكثر تشبثا بالفرنسة من ثلة من المجموعة العربية، ترى في العمل ضد ترسيخ الفرنسية بديلا عن العربية "خطرا"، تجب محاربته.. لأن الاندماج لفرنكوفوني، يمثل خيارا يستجيب ل"رغباتهم" وما يفترض أنها مصالحهم الذاتية.
ثلة من بني جلدتنا، هم في كل المواقع ومن مختلف الشرائح، تخاف الإسلام وتبغض اللغة العربية وترى في انتماء موريتانيا للجامعة العربية وخروجها من منظومة غرب إفريقيا أكبر جرم وأفظع توجه، يستحق الوصف بأنه "جريمة عظمى" وخيار يجب فرضه بالمقلوب.
ورغم الحضور المعتبر لنواب من الضفة لتلك الجلسة، فإننا نلاحظ أنهم فضلوا النأي بأنفسهم عن جدال، أثبت عبثيته وعقمه وتركوا تلك "المهمة" لمن يرغب في أن يتولى كبر تهميش اللغة العربية، دون أن يكونوا هم شركاء في دمها وغير معنيين بما يدور من جدل حولها.. وحسنا فعلوا.
قد نفهم تجرأ البعض على البوح بتلك الآراء خلال فترتي الستينات والسبعينات.. أما اليوم وبعد أن أصبح الدستور بوصلة البلد وعنوانا لكل التوجهات، فعندها تصبح مثل تلك الآراء النشاز غير مقبولة ، وجزءا من الماضي المؤلم وانحدارا داخل هوة الميوعة والتنكر للثوابت الوطنية من قبل ناس هم"مشرعون" يتحدثون تحت قبة البرلمان وأمام الأضواء الكاشفة.
إنه خيار قد لا يدرك مروجوه مخاطره، عند ما يبنون وهما، يقلب هرم الأغلبية لصالح الأقلية ويمجد الآخر على حساب المجموعة الوطنية، ويدافع عن خيار، أثبتت مدرجات جامعة نواكشوط التنصل منه واستماتة الطلبة في البحث عن بدائل له، رغم المبالغ الهائلة، التي يغدقها التعاون الفرنسي ورغم حجم الطاقات البشرية المجندة لهذه المهمة.
خيار رغم محوريته الماثلة حتى الآن داخل الإدارة واستماتة مجموعة من "لفرانكوفيلين" للدفاع عنه، إلا أنه آيل للزوال في القريب العاجل، وعما قريب، سيصبح بعون الله جزءا من الماضي، فهو اليوم يلفظ أنفاسه الأخيرة وسيختفي باختفاء سدنته وانحسار المغرورين بجدوائيته وتراجع الجهة الراعية له داخل المنطقة الإفريقية والحلبة الدولية.
نقاش النواب في الميزان
كان النائب الخليل محقا في طرحه للموضوع، رغم أنه جانبه الصواب، عند ما حول المطلب الجمعي إلى إنجاز خصوصي، دفعت من أجله حركة سياسية لوحدها الشهداء، الشيء الذي قد يحدث حساسية لا مبرر لها.
كما أن محاولة احتكار "الإنجاز"، هو خطيئة.. فالحمل أكبر والجهد متعدد، دشن خيار مقاطعة المدرسة الفرنسية باكورته، دون تسييس.
ثم جاء المدد من النواب: السالمة – محمد- د.عبد الله...إلخ، وكان معبرا بصدق عن خيار الشعب وجسد عينة، تعكس اتساع خريطة رفض المسخ الثقافي على المستوين الجهوي والفئوي وذكر بمرجعية الدستور مستدلا بنماذج من تعصب الفرنسيين للغتهم ونماذج أخرى حول العالم.
وحذر أحدهم مما قد يعد ويبيت للمنطقة موضوع الحديث، لأنها ببساطة لا زالت منفعلة وليس مسموحا لها أن تكون فاعلة.
أما الوزير، فكان تبريريا بامتياز ومتجاهلا للدستور، الذي يفترض أنه يمثله، وظهر كجزء من الميوعة، التي تفضل الإمعة مع الفرنسي، على حساب الخيار الوطني.
ما الحل؟
أمام واقع كهذا، لا بد من أن يخرج صوت عقلاء مجموعتنا الوطنية إلى العلن، ما دمنا نرفض جميعا التهميش والظلم والإقصاء والتنكر للخصوصيات الثقافية، وندعي جميعا أننا نرغب في أن نعيش معا.
فقد أثبتت التجارب الإنسانية أنه لا يصح إلا الصحيح وأنه لا مستقبل إلا لدولة القانون والمواطنة المتساوية وأن لا بقاء للمكاسب المفروضة بالقوة.
لذا ليس من مصلحة فرنسا أن تظل علاقتها ببلدنا قهرية، وأن تبقى ممعنة في إذلال الشعب الموريتاني، من خلال الإنتقاص من خصوصيته الثقافية.
كما أنه آن الأوان أن تدرك زمرة "لفرانكوفيليين" أن عهد هيمنتهم قد ولى وأن الرهان على الفرنسيين، قد أثبت فشله بالنسبة ل"الحركيين" في الجزائر وللمجندين سابقا في صفوف قوات المستعمر، كما مثل واقع الضواحي الباريسية اليوم، حقيقة الود الذي تكنه فرنسا لأبناء مستعمراتها السابقة.. "فليس لفرنسا أصدقاء دائمون وإنما مصالح دائمة".
فالسعي من أجل تهميش ثقافة غالبية الشعب لصالح أقلية تشكلت من مختلف الشرائح والقوميات، هو مشروع فتنة وقنبلة موقوتة، يجب إبطالها بالحسنى، حتى لا تنسف الوجود والكيان.. ثم إن هذا "التنازل المجاني" من طرف الغالبية، لم يرض أصلا من يستفيدون منه ولم يجاملوا الآخرين في سكوتهم عليه.. كما لم ينجح مروجوه كذلك في محو الذاكرة الثقافية الوطنية.
فقد قدم الشباب الموريتاني المتوثب للقتال في صحراء أزواد الدليل على أن المستقبل ليس بالضرورة مفروشا بالورود وإنما هو عرضة لكل الاحتمالات.. فلنحصن بلدنا بالعدل ولندع الأوهام جانبا.. فالحق أحق أن يتبع والضرر لا بد أن يزال.
محمد المختار ولد محمد فال- كاتب صحفي