
الحديث عن الثقافة الموريتانية، يتسم بإلإشكال والتعقيد، لتداخل المجال الشنقيطي الموريتاني مع مناطق أخرى، هي اليوم واقعة خارج الحدود الدولية لبلدنا، الشيء الذي فرض واقعا جديدا في مجال يجمعه كل شيء، وتفرقه بطاقة التعريف.
كما أن غزو ثقافة الوافد الفرنسي لمجتمعنا، وتفرده بوضع ملامح للدولة الموريتانية تخدمه وتكرس نفوذه، قد غيرا بنية السلطة وأساليب العيش عندنا، وخلقا تراتبية جديدة، هدفها الإطاحة بالإرث الشنقيطي، الشيء الذي خلق مستوى من التشويش على مستوى الرؤى وساهم في تضارب النماذج والولاءات والخيارات، بشكل، كرس ازدواجية في الوعي والممارسة الشعبية والرسمية..
إن أول ما قام به الاستعمار الفرنسي، هو: تقليص التواصل الاجتماعي والثقافي بين موريتانيا والفضاء العربي ومحاصرة الثقافة العربية.. فهمش العلماء وقلل من شأن "المحاظر" وحجم نفوذها وأقصى خريجيها عن الحياة النشطة.(1).
ومع أن "العلم ربيب الحضارة" فقد انتشرت الثقافة المكتوبة، حيث لا توجد دولة بالمعنى المركزي للكلمة.. إنها المعجزة الشنقيطية، التي أعطت لبلادنا هذا الزخم ووضعتها في المقدمة، رغم الطرفية والواقع الصعب.
فرغم وعينا بشمولية مفهوم الثقافة أنتروبولوجيا، وتنوع العطاء الثقافي للشناقطة، إلا أن المعارف التي ظلت متداولة في مختلف المحاظر هي: علوم القرآن والحديث والفقه واللغة العربية بالإضافة إلى ما كان يسمى بالعلوم الكمالية كالمنطق والتاريخ والطب والفلك والرياضيات إضافة إلى التصوف(2)،
فهذه الموسوعية، جعلت من العلماء الشناقطة أئمة ومراجع أينما حلوا وناظروا.. فقد طلب ملك السويد أن يكون محمد محمود ولد اتلاميد على رأس بعثة علمية بعثها السلطان العثماني إليه في مهمة ثقافية مشهورة,
كما أسند له الإمام محمد عبده تدريس اللغة في الأزهر الشريف، وأوكل إليه إحياء أمهات الكتب العربية الكبرى، فحرر القاموس وأملى الأراجيز وأنجز الكثير.
وفي مصر أيضا انتخب الشيخ محمد حبيب الله بن ما يأبى، مدرسا للحديث النبوي الشريف بالأزهر.. ويقول عنه أسامة الأزهرى: "العالم الموريتاني محمد حبيب الله الشنقيطي، هو هدية من موريتانيا إلى مصر(...) وهو من شيّخََََََ مشايخنا من الازهريين.(3)،
مكانة بلغها في الأردن شقيقه: الشيخ محمد الخضر ولد مايابي الشنقيطي، وحصل عليها كذلك صنوه محمد العاقب.
كما نجد الشيخ عطيه محمد سالم (واضع مقدمة"أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن") يقول: : "إن الشيخ (ءابه ولد اخطور) ربى أفواجا متلاحقة تعد بالآلاف من خريجي كليات ومعاهد الإدارة العامة بالرياض والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة".
هذا التأثير وهذه الريادة، نجدهما أيضا عند محمد الأمين ولد فال الخير الحسني الشنقيطي في الكويت والعراق.. كما كان هناك جهابذة ءاخرون، مثلهم، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ سيد المختار الكنتي والشيخ محمد فاضل ولد مامين والشيخ ماء العينين وسيد عبد الله ولد الحاج ابراهيم والشيخ سيدي الكبير والطالب أحمد المصطفى بن طوير الجنة ومحمد يحيى الولاتي.
كما ترجم الطالب محمد البرتلي في كتابه "فتح الشكور" ل 200 عالم شنقيطي عاشوا خلال الفترة من 1056 هـ إلى 1215هـ، خدموا العلم والتراث بأمانة وإخلاص.
ونظرا لصعوبة حصر كافة العلماء الأعلام الشناقطة في ورقة موجزة-كهذه، فسنقتصر على نماذج منهم على سبيل المثال لا الحصر، وهم: باب ولد أحمد بيب، ومحنض باب ولد اعبيد، و الشيخ محمد إلمامي ولد البخاري، ومحمد ولد محمد سالم المجلسي، ومحمد مولود بن أحمد فال، و عبد القادر ولد محمد ولد محمد سالم، ويحظيه ولد عبد الودود، وعبد الله بن أحمد الشنقيطي، والطالب احمد بن محمد راره، وغالي ولد المختار فال، والشيخ سيد محمد الخليفة، وحرمه ولد عبد الجليل، ومولود بن أحمد الجواد، وعبد الله ولد سيد محمود، وأحمد ولد عمر العيشي، وأعمر ولد بده الفاضلي، ولمرابط محمد أحيد ولد سيد عبد الرحمن، و محمد سدين ولد برو، ومحمد يحي ولد اسليمه اليونسي، والشيخ محمد عبد الله ولد أحمذي، والشيخ محمد محمود ولد الشراح،ومحمد ولد المحفوظ ولد دهمد، واباه ولد محمد الأمين وابنه محمد شيخنا، ومحمد بن أحمد الفوتي، والحاج أبوبكر سي، والشيخ بداه البصيري و محمد سالم عدود و الطبيب أوفى بن بوبكر و خديجة بنت العاقل ومريم بنت الأمين وغيرهم كثير.
ومن نوادر التاريخ "أن ضمَّت مناسبةُ تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي فى جدة نخبةً من كوكبتنا المهاجرة، حضره كل واحد منهم ممثلا لبلد غير بلده الأصلى: موريتانيا..
حيث اجتمعوا لترتيب ما أسند إليهم ، وهم السفير المغربي الدَّيْ بن سيدى باب ، والسفير الأردني لدى السعودية الشيخ محمد الأمين بن محمد الخضربن مايابى ، ووكيل وزارة العدل اليمنية حينها الشيخ أحمد إبن العلامة الشيخ محمد عبد الله بن زيدان البصادى ، ووكيل وزارة الإعلام بالسعودية محمد عبد الرحمن بن الشيباني ، والسفير الموريتاني بالسعودية ، محمد بن جدو.. وكان اجتماعهم هذا بحضرة وكيل وزارة الخارجية السعودية آنذاك إبراهيم بن مسعود، فقال لهم ما معناه ، عجبت لكم أيها الشناقطة تنتمون لبلد ناء فقير ومهمش ومع هذا يجتمع منكم فى هذه المناسبة السامية هذا الجمع الكبير الذى لا يوجد عند غيركم" (2).
وعلى مستوى الجوار الإفريقي، يورد الأستاذ الخليل النحوي نقلا عن المؤرخ الفرنسي: "بول مارتي" قوله: إن جميع التحولات التي حدثت في السنغال خلال القرن الثامن عشر، هي ثمرة عمل بعثات الدعاة الذين كان العلماء الشناقطة يرسلونها إلى المنطقة".. كما كان لمشاييخنا الأفذاذ دور بارز في نشر الطرق الصوفية في إفريقيا.
تفرد جعل الأستاذ عبد اللطيف الدليشي الخالدي، يقول : "إن من الشناقطة علماء قد لا نغالي إذا قلنا عنهم إنهم لا يقلون أهمية عن أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا واضرابهم" وطالب بتضمين برامج مدارس الأقطار العربية دراسات وافية ضافية عن علماء وشعراء وأدباء شنقيط.
حقيقة أكدها الدكتور طه الحاجري في مقال له عن شعراء شنقيط قال فيه: إنهم "...حلقة مفقودة في تاريخ الأدب العربي" وأضاف "إن دراسة الشعر الموريتاني يمكن أن تغير التصنيف الحالي لعصور الأدب العربي..".. وهو ما أكده أيضا الدكتور عباس الجراري.(3)
ويقول: المفتش العام الفرنسي «جاك بيرى»، «لا يوجد أي مجتمع بدوي بلغ مبلغ البيضان الشناقطة في العلم بالعقيدة والتاريخ والأدب والفقه وعلوم اللغة».
كما يؤكد د. عائض القرني قائلا: "لقد حفظ علينا الشناقطة اللغة العربية في الشمال الأفريقي وإفريقيا عموما، وقاوموا الغزو الثقافي للغة الأمة ودينها، وكانوا حصنا منيعا أمام موجات التغريب وتغيير الهوية الثقافية واستلاب ذائقة الأمة الجمالية والاعتداء على تراث المسلمين المعرفي.
فإذا كانت الأمم تحتاج إلى وقت طويل كي تحظى بشخصيات لامعة تقود عقلها الجمعي، فإن الشناقطة شكلوا استثناء، يستحق التنويه والإشادة، بفضل "المحظرة"، التي هي مفخرتنا وأداتنا لمواصلة الإشعاع الثقافي، الذي كرس أستاذيتنا عربيا وإفريقيا، الشيء الذي يفرض علينا صيانة إرثنا المحظري، الذي يشكل زادنا الذي لا ينضب.
1- الدكتور محمد الأمين ولد الكتاب
2- د/ ولد الكتاب
3– آفاق فكرية- الدكتور احمد ولد حبيب الله - مراسلون