أحمدو ولد حرمه ولد بابانا زعيم أقام الدنيا ولم يقعدها/ محمد المختار ولد محمد فال- كاتب صحفي

أربعاء, 03/22/2023 - 23:30
الزعيم أحمدو حرمه بابانا

ورقة أعدت، بمناسبة ندوة حول الزعيم أحمدو حرمه بابانا، تحت عنوان:

السيرورة التصاعدية لنضال الزعيم أحمدو حرمه بابانا.. من المقاومة الداخلية إلى العمل التحرري العربي والدولي

مقدمة:

قي العام 1907م  وعلى رمال الجزء الجنوبي الغربي من بلاد شنقيط ولد وترعرع الشاب أحمدو ولد حرمة ولد ببانا، حيث نهل من علوم محاظرها، وتربى في بيت من أكرم بيوتاتها، اعتاد الحرية في فضاء بواديها العالمة، وألف مجابهة الصعاب في تضاريسها الوعرة.

نضجه المبكر ووعيه المتفرد، جعلاه يدخل بإرادته الحرة المدارس الإستعمارية، ليتخرج منها ثائرا على الظلم ورافضا لوجود المحتل، مستوعبا لأساليبه ومتسلحا بخبرة، ساعدته في مواجهته مع الغازي الوافد.. مواجهة جعلته يضحي بكل شيء من أجل الوطن، والمنطقة، رافضا للإستعمار في كل مكان، لكونه يسحق كرامة الشعوب ويمتص ثرواتها ويزدري إنسانيتها.

من هنا كانت البداية لرحلة، اتسمت جميع محطاتها بالجهاد والرفض للظلم.. مواساة للضعيف ومواجهة لا تلين للمستعمر وأعوانه، توجت بحكمين بالإعدام ضد الزعيم حرمه بابانا.. أحكام لم تثنه عن جهاده السلمي أو العسكري، حتى خروج ءاخر جندي للمستعمر من أرض موريتانيا.. عندها توجه إلى الحرمين الشريفين، حيث تفرغ للدعوة إلى الله، مستعينا بانخراطه في رابطة العالم الإسلامي وبأثير الإذاعات، معززا بإتقانه للغة الفرنسية، موجها الدعوة إلى الأفارقة للدخول في الدين الخاتم، فكان نجاحه الباهر في إعتناق عشرات الآلاف من الأفارقة للإسلام ودخول رئيس الغابون وحكومته بأكمها للدين الحنيف.

 وبعد جهود قام بها خيرون.. اعترفت فرنسا بصوابية نضاله، وأكدت أنه كان دفاعا عن وطن محتل، وأنه خيار كل مناضل حر، يرفض الظلم والتبعية والهوان..فألغت حكمها بالإعدام، الصادر ضده، وأعادت إليه حقوقه كاملة، كبرلماني سابق في جمعيتها الوطنية، ثم تلاه إلغاء الحكم الصادر من طرف الحكومة التي نصبها المستعمر في موريتانيا.

عندها عاد الزعيم أحمدو ولد حرمه ولد بابانا إلى وطنه، واستقر فيه بقية حياته،  حيث دفن مع آبائه وأجداده في بلد قدم له الكثير، وعانا فيه ظلم ذوي القربى ودسائس المحتل، تاركا كل الإغرءات المادية والمعنوية، التي كان يتمتع بها خارج البلد، راغبا عنها في العودة إلى وطن أحبه ونال فيه الكثير من المؤازرة والتأييد.

 

أحمدو ولد حرمة من المقاومة الداخلية

إلى العمل التحرري العربي والدولي

يقول المرحوم الحضرامي ولد خطري: إنه لم يظلم أحد في موريتانيا، كما ظلم الزعيم أحمدو ولد حرمه.

كما يؤكد المرحوم شيخنا  ولد محمد الاقظف أيضا: إن أحمدو ولد حرمه رمز كبير لهذا البلد.

ويؤكد كذلك شيخ جليل في موريتانيا هذه الحقيقة، حيث يقول: لقد كان الوجهاء في موريتانيا يتعجبون من هذا الفتى العلوي، الذي لايقيم وزنا للفرنسيين.

إنها شهادات تختصر الكثير.. ذلك أن تماهي واجهة الدولة الوليدة مع أطروحات المستعمر الفرنسي، جعلتهما معا يحكمان عليه بالإعدام ويجرمان جهاده ومواقفه النضالية الموجهة ضد ظلم المستعمر واضطهاده لمواطني بلده، الشيء الذي جعله يدفع أثمانا باهظة، كاد بسببها أن يفقد حياته مرتين، تارة بالحقنة القاتلة في سينلوي وتارة بتدبير مخابراتي لإغتياله في فرنسا.

فمقولة "التاريخ يكتبه المنتصرون"، تختزل القصة برمتها حيث تم تزوير إرادة الناخب الموريتاني مرتين، وشوهت دوافع نضاله الوطني، كما شنت حملة شعواء ضد جميع المجاهدين ومناوئي المستعمر، ونعت الجهاد بوصفه إرهابا، وسلوكا يجب على الجميع مناوأته والإبتعاد عنه.

كما انتهج الفرنسيون طريقة مبتكرة لسد الطريق أمام فوز الزعيم حرمة انتخابيا، من خلال تحالف الإدارة الإستعمارية مع شيوخ القبائل ووجهائها.. وهي الآلية التي لا زالت صلاحيتها مستمرة في موريتانيا، حتى يوم الناس هذا..آلية وفرت فرصة لأعوان المستعمر، جعلتهم يحمدون بما لم يفعلوا.. (فإذا كان المثل الروماني يقول إنه : "بعد الحرب يتكاثر عدد الأبطال"، فإن الأبطال يموتون واقفين دائما- كما يؤكد سعيد تقي الدين).

ورغم ظلم ذوي القربى ودسائس المستعمر، فقد أدى الكشف جزئيا مؤخرا عن الأرشيف الفرنسي ونشر مذكرات إداريي الإستعمار إلى إنصاف الرجل.. فهذا والي المستعمر الفرنسي على موريتانيا: "ابيير مسمير"، يقول: " لم يقاوم حرمه ولد بابانا الإدارة الفرنسية إلا من أجل استقلال بلاده".

كما يؤكد كثيرون، من بينهم الحاكم الفرنسي: "كابريل فيرال"  في كتابه "طبول الرمال:"إننا زورنا الإنتخابات ضد حرمه".. حقيقة أكدها كثيرون وبينت ممارسات الإدارة الإستعمارية اللاحقة بوضوح أهدافها ومراميها .

أما الأرشيف الفرنسي، فقد احتفظ لنا بخطابات ومواقف، تضع الرجل في مقدمة الأبطال، الذين لا يصدهم عن مواقفهم لومة لائم.. فقد هدد الفرنسيين تحت قبة برلمانهم بالعودة هو ورفاقه الأفارقة  إلى أوطانهم وإعلان الجهاد ضد فرنسا، نصرة لفلسطين، مؤكدا أنه معزز بدعم وتأييد ممثلي الأقاليم الإفريقية في البرلمان الفرنسي جميعها، الشيء الذي دفع بالفرنسيين إلى إلغاء قرارهم بإرسال 3 سفن محملة بالأسلحة إلى الصهاينة..

 إنجاز لا يمكن فهم كنهه إلا من خلال معرفة حجم الدعم الفرنسي للصهاينة حينها والذي توج بمنحهم تقنية وأساسيات القنبلة النووية.

 

نماذج من محطات نضال الزعيم حرمه المختلفة:

إن انتخاب أحمدو ولد حرمه نائبا عن موريتانيا في البرلمان الفرنسي، شكل امتدادا جهاديا لروح المقاومة المسلحة، التي تم القضاء عليها عمليا سنة 1932م وهو ما سيجسده برنامجه الإنتخابي المتمثل في تأجيج الروح الوطنية اتجاه الاستعمار الفرنسي، بالاستناد إلى مرجعية إسلامية وإرادة صلبة لا تلين..وقد تجلت مواجهة الزعيم حرمة لغطرسة وجبروت المحتل، ضمن مستويين: داخلي وخارجي.

*أولا على المستوى الداخلي:

 

كان لتسلح الزعيم أحمدو ولد حرمة بثقافة المستعمر، دورا كبيرا في لجم غطرسة ممثلي الإدارة الفرنسية في موريتانيا.. فقد استطاع أن يواجههم بسلاحهم وأن يطلع على مكامن ضعفهم وأن ينجح في استخدام أدوات التأثير على ممارساتهم.. خدمة للمواطنين وإنصافا لهم من ظلم وبطش الإدارة الإستعمارية الظالمة والمتغطرسة.

لقد تدرج هذا الدور النضالي بشكل تصاعدي، حيث انتقل من رفع المظالم عن الناس- وهو لا زال معلما، ثم مترجما.. وله في ذلك مواقف مشهودة، أكسبته شعبية كبيرة في جميع جهات الوطن المختلفة، التي لم يطل مكثه في أي منها، بفعل مواجهته العنيدة لظلم إدارة المستعمر وأدواتها المحلية.

أما النقلة الكبرى في نضاله، فقد تمثلت في نجاحه، ممثلا لموريتانيا في البرلمان الفرنسي.. ، حيث أظهر عزة نفس وتعال أمام ممثلي الإدارة الإستعمارية، الذين حط من أبهتم أمام المواطنين الموريتانيين، الذين كانوا يجبرون على الوقوف والتحية، كلما مر بهم فرنسي، بغض النظر عن موقعه ومكانته.. كما كان يركب في مقدمة السيارة في حين يصعد الوالي الفرنسي وبقية الإدارة الإستعمارية في المؤخرة، .. وكان  الوالي لا يصعد إلى مؤخرة السيارة أو ينزل منها ، إلا بعد النائب حرمه، ولا يخاطبه إلا بصوت منخفض.

 

لقد كان لطريقة تعامل الزعيم أحمدو ولد حرمه هذه مع رموز الإدارة الإستعمارية، تأثير نفسي عميق على  المواطنين، وشكل أساسا لقلب جميع الثوابت التي رسختها ممارسات ممثلي المستعمر.

 فقد استطاع رحمه الله إلغاء الضريبة على الفرد المعروفة محليا ب(ضريبة الأذن)، والتسخير القسري بكل أشكاله، والضيافة الإجبارية لجنود المستعمر، وفك الأسرى من أيدي المتغلبين المحتلين..إلخ

أما الإنجاز الأهم، فقد تمثل في إعادة رسم الحدود مع مالي، والذي بموجبه، استعادت موريتانيا الحوضين، بفضل الجهود المضنية، التي بذلها النائب أحمدو ولد حرمه رحمه الله.

 

*ثانيا- على المستوى الإقليمي والدولي:

 

شكل دخول الزعيم أحمدو ولد حرمه إلى قبة البرلمان الفرنسي، محطة فارقة في نضاله الخارجي والداخلي على حد سواء، حيث استطاع داخليا استعادة جزء كبير من البلاد إلى حضن الوطن وألغى جميع مظاهر السخرة وكل ما ينقص من كرامة المواطن الموريتاني، الذي ظل يقدم أمامه النموذج تلو الآخر في التعالي على ممثلي الإدارة الإستعمارية وأعوانهم المحليين- كما أسلفت.

وبنفس الإرادة استغل  هذا الموقع لصالح الشعوب المظلومة وعلى رأسها الشعب الفلسطيني.. ويتجلى ذلك بوضوح من خلال موقفه القوي المناوئ لاعتراف فرنسا بالكيان الصهيوني، حيث استجوب وزير خارجيتها آنذاك أمام برلمانهم، وقدم مرافعة حينها، غاية في القوة والسلاسة والإقناع، مهددا بأنه هو وزملاؤه الأفارقة، سينسحبون من البرلمان الفرنسي، معلنين الجهاد في بلدانهم ضد فرنسا المثخنة وقتها بجراح الحرب العالمية الثانية، الشيء الذي أدى بالحكومة الفرنسية إلى إلغاء إرسال سفنها المحملة، بالأسلحة، التي كانت ستبحر نحو الكيان الغاصب- كما أسلفت.

وقد تجلى البعد الإقليمي والدولي في نضال حرمة بابانا، من خلال انخراطه في الإشتراكية الدولية- التي كان دعمها له حاسما في ترشيحه وفوزه نائبا في الجمعية الفرنسية، كما مثل اتفاقه مع فرحات عباس في سويسرا، والقاضي بالدعم العسكري المتبادل، بين حركتي التحرير في البلدين ضد الفرنسيين من أجل التحرر من ربقة الإستعمار، دليلا ساطعا هو الآخر على انخراطه في العمل التحرري، الذي ظل ديدن الزعيم حرمة، الشيء الذي دفع المخابرات المصرية في عهد عبد الناصر، إلى تهريبه من فرنسا -عبر سويسرا- وصولا إلى القاهرة، إثر اكتشافها لعملية اغتيال تدبرها المخابرات الفرنسية ضده .. وفي القاهرة حظي باستقبال غاية في التكريم والحفاوة من طرف الرئيس عبد الناصر، الذي وصف النائب حرمه بالبطل القومي..

وفي القاهرة، اختط خطوة نضالية جديدة، تمثلت في تنسيقه مع زعماء الحركة الوطنية في المغرب العربي المناوئين للإستعمار الفرنسي، وخطابات موجهة لمواطنيه  في موريتانيا والمنطقة عبر إذاعة "صوت العرب من القاهرة"، لكن اندفاعه الشديد نحو تحرير وطنه  من ربقة الإستعمار، جعله لا يقتنع بالنضال بعيدا عن الوطن، فالتقى بولي العهد المغربي الزائر وقتها للقاهرة، طالبا من المغرب تقديم الدعم من أجل طرد المستعمر الفرنسي من موريتانيا، بواسطة الثورة المسلحة.. وهو ما تم، حيث أسس جيش التحرير، الذي كانت له معارك عديدة داخل البلد(مثل :معركتي "تكل" و"النعمة" على سبيل المثال لا الحصر)، حيث تكبد الغزاة خلالهما خسائر فادحة أفقدت المستعمر صوابه وعجلت برحيله.

خيار لم يتنازل عنه الزعيم حرمه، إلا بعد خروج ءاخر جندي فرنسي من موريتانيا.. عندها فقط صرح قائلا: "لقد أنتهت مهمتي".

 وبعدها توجه إلى الحرمين الشريفين، حيث انخرط في الدعوة إلى الله ونشر الإسلام، فكان له دور مشهود في دخول أعداد هائلة من الأفارقة في دين الله، توجت هذه الجهود بإعلان الرئيس الغابوني وحكومته وأعداد كبيرة من شعبه عن دخولهم في دين  الإسلام- كما أسلفت.. جهد أتى أكله، بفضل الأحاديث الدينية الإذاعية، التي كان الزعيم حرمه يوجهها بالفرنسية لشعوب القارة الأفريقية الناطقين بها.

 

خاتمة

لقد كان الزعيم أحمدو حرمه بابانا، مناضلا لا يهاب العواقب وثائرا ضد المستعمر، يضبط بندقيته بضوابط الشرع، كما كان رحمه الله داعيا إلى الله في جميع المنابر وملتزما دينيا بشكل لا يقبل التأويل، الشيء الذي فعل فعله في الرئيس الفرنسي ديغول عند ما أوقف جلسة منعقدة في بوجمبورة، ثم وقف مقدما التحية العسكرية للزعيم حرمة، قائلا : " لأول مرة يسجد لله في هذه القاعة".

لقد أقام الزعيم أحمدو ولد حرمه الدنيا ولم يقعدها..وظل حديث الموريتانيين والمنطقة لعقود من الزمن، حيث أوقد شعلة لم تنطفئ بعد.. لا زلنا نعيش تداعياتها في الشارع وفي التوجه والموقف من المستعمر.. في مقابل سردية نسجها الفرنسيون وأعوانهم، لكنها، سرعانما تداعت حبكتها ونسفت مصداقيتها، بعد أن  ألغيت السرية جزئيا عن الأرشيف الفرنسي وتم نشر  مذكرات مسؤولي حقبة الإستعمار.

رحم الله أحمدو ولد حرمة.. لقد كان فلتة في التاريخ الموريتاني سابق لزمانه، وشمعة، سعى المستعمر وأعوانه لإطفائها .. لكن الذاكرة الوطنية لا زالت ترى فيه زعيما وطنيا، كما أن أرشيف فرنسا وشهادات الأعداء في مذكراتهم أنصفاه.. فالحق ما شهدت به الأعداء.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (صدق الله العظيم).

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.ل

 

 

محمد المختار ولد محمد فال

نواكشوط، بتاريخ:21/03/2023

ورقة أعدت، بمناسبة ندوة حول الزعيم أحمدو حرمه بابانا، تحت عنوان:

 

السيرورة التصاعدية لنضال الزعيم أحمدو حرمه بابانا

من المقاومة الداخلية إلى العمل التحرري العربي والدولي